بقلم: د. حسين عبد البصير
تكملة للعدد الماضي:
تقع مصر في الركن الشمالي الشرقي من القارة الأفريقية وتمتد في جنوب غرب آسيا من خلال شبه جزيرة سيناء، بوابة مصر الشرقية والمدخل الرئيس للغزاة إلى الأرض المصرية عبر التاريخ. وجعل هذا الموقع الجغرافي المتميز من مصر ملتقى للحضارات وبوتقة لتلاقي الثقافات، وجعل كذلك منها مطمعًا للغزاة والطامعين والمحتلين عبر تاريخها الحضاري الطويل.
وتعددت الأسماء والصفات التي أُطلقت على مصر، خصوصًا في مصر الفرعونية. وجاء اسم مصر في اللغة الإنجليزية «إيجيبت» من التعبير المصري القديم «حوت كا بتاح» – ويعني «معبد قرين بتاح» – وهو اسم معبد مصري قديم خُصص للمعبود المصري القديم «بتاح»، إله مدينة «منف»، العاصمة المصرية القديمة. وينتمي المصريون إلى الجنسين السامي والحامي. ويطلق المصريون على مدينة القاهرة، العاصمة، «مصر»، مختزلين اسم بلدهم في عاصمتهم.
وتبدأ قصة الحضارة المصرية المكتوبة في حوالي العام 3000 قبل الميلاد، حين أبدعت مصر القديمة الكتابة وأدخلت العالم إلى دنيا التدوين فتراكمت الخبرة الإنسانية والتراثية وحافظت على الذاكرة البشرية من الضياع. وهذا العصر هو عصر المركزية والذي سوف يستمر طويلاً ويصبح سمة غالبة للإدارة المصرية عبر تاريخها الطويل خصوصًا في عصور القوة، وسوف يتحول كثيرًا إلى عقبة في مسيرة التنمية والقضاء على المركزية في صنع القرار. وبتوحيد مصر العليا (الصعيد) ومصر السفلى (الدلتا) في مملكة واحدة، وقيام الدولة المركزية على يد الملك «مينا»، استقرت في هذه الفترة المبكرة قيم ومعايير سوف تحكم الدولة المصرية وتصبغ الشخصية المصرية إلى الآن. وبعد هذا التاريخ المبكر الذي اشتمل على الأسرتين الأولى والثانية، دخلت مصر عصر الدولة القديمة والذي يعرف أيضًا بـ«عصر بناة الأهرام»، وفيه شيد المصريون الأهرام المصرية الشهيرة في الجيزة وسقارة ودهشور وأبورواش وأبوصير وغيرها، ونحتوا تمثال «أبو الهول» الشهير فوق هضبة أهرام الجيزة ممثلاً في الغالب الملك خفرع باني الهرم الثاني بالجيزة. وتقف الآثار المصرية شامخة شاهدًا ودليلاً على عبقرية الأداء وروعة الإنجاز والإعجاز المعماري والهندسي والفلكي والإداري الخاص بالمصريين القدماء. وبعد ذلك العصر الذهبي، مرت مصر بفترة اضمحلال، خرجت مصر بعدها قوية إلى عصر الدولة الوسطى، حين وصل الأدب المصري القديم إلى القمة، ويعرف هذا العصر بـ«عصر الأدب الكلاسيكي». وبعد هذا العصر الذهبي، مرت مصر بأصعب محنة عرفتها في تاريخها الفرعوني القديم كله، ألا وهي احتلال أرض مصر من قبل قبائل أجنبية، تعرف بـاسم «الهكسوس»، (وتعني «حكام الأراضي الوعرة» في اللغة المصرية القديمة)، تسللت بطريقة سلمية في غفلة من الزمن إلى مصر عبر حدودها الشرقية وبسطت سيطرتها على أجزاء كبيرة من الأرض المصرية حين ضعفت مصر القوية. وبعد كفاح طويل ومرير، استطاع الملك المصري الجنوبي الشهير، «أحمس الأول»، طرد الهكسوس من كل الأرض المصرية ودفعهم إلى الهروب إلى فلسطين. وبتحرير مصر من الهكسوس، نشأت الدولة الحديثة، العصر الذهبي الثالث والأخير في مصر الفرعونية، والذي يعد واحدًا من أروع فترات الازدهار في تاريخ الحضارة الفرعونية القديمة. وخلال ذلك العصر، اتبعت مصر سياسة خارجية جديدة جاءت كرد فعل على محنة احتلال الهكسوس لأرض مصر. وقامت هذه السياسة على التوسع في الفتوحات الخارجية وضم العديد من الإمارات والممالك إلى زمرة السيطرة المصرية، وهذا ما يعرف بـ«عصر الإمبراطورية» في مصر الفرعونية. ويعد الفرعون تحتمس الثالث هو مهندس الإمبراطورية المصرية في آسيا وأفريقيا. ومن بين أشهر الملوك الفراعنة في هذا العصر، أحمس الأول وحتشبسوت وتحتمس الثالث وأمنحتب الثالث وأخناتون وتوت عنخ آمون وسيتي الأول ورمسيس الثاني وغيرهم. وبعد ذلك العصر، دخلت مصر ما يعرف بـ«عصر الانتقال الثالث» وفيه ساد التوتر والانقسام والا مركزية الأرض المصرية. ثم جاء العصر المتأخر وحكمت فيه مصر أسرات مصرية، مع بعض فترات من الاحتلال الفارسي، إلى أن جاء الإسكندر الأكبر، وعلى يديه وعلى أيدي خلفائه الملوك البطالمة، تحولت مصر إلى مملكة إغريقية- بطلمية. وبهزيمة الملكة البطلمية الشهيرة كليوباترا السابعة على يد الرومان، انتهت حكم مصر البطلمية وصارت مصر جزءًا مهمًا من الإمبراطورية الرومانية.
ويعتبر اكتشاف حجر رشيد الأثري واحدًا من أهم الاكتشافات الأثرية في تاريخ الإنسانية، ومفتاحا مهما لكشف أسرار اللغة المصرية القديمة، ونافذة مضيئة أطل العالم كله منها على سحر مصر القديمة.
اكتشف حجر رشيد الضابط الفرنسي بيير- فرانسوا أكسافييه بوشار يوم 15 يوليو 1799 أثناء قيام قواته بتوسعة قلعة قايتباى بمدينة رشيد.
ونُحت حجر رشيد من الحجر الديوريتى الجرانيتي. ولهذا الحجر لونان هما اللون الوردي واللون الرمادي. ويبلغ طوله حوالي 112 سم وعرضه 75 سم وسمكه 28 سم ووزنه 762 كيلوجراما.
وكتب النص المنقوش على الحجر في ثلاث نسخ تمثل الكتابة الهيروغليفية (الكتابة المقدسة) على قمة الحجر، والكتابة الديموطيقية (الكتابة الشعبية) في منتصف الحجر، والكتابة اليونانية القديمة (في أسفل الحجر). والباقي من نص الكتابات الهيروغليفية أربعة عشر سطرا وتطابق الثمانية والعشرين سطرا الأخيرة من النص المصري القديم، والمتبقي من الكتابة الديموطيقية اثنان وثلاثون سطرا، ونص الكتابة اليونانية القديمة شبه كامل في أربع وخمسين سطرا.
ويسجل نص الحجر مرسوما يخص الملك بطليموس الخامس، أقره مجمع الكهنة في منف عام 196 قبل الميلاد. ويؤكد على العبادة الملكية الخاصة بالملك ابن الثلاثة عشرة عاما في الذكرى الأولى لجلوسه على العرش. ويشير إلى أفضاله على المعابد المصرية وكهنتها مثل منحها كميات كافية من القمح، وإسقاط الديون عن كاهل الشعب المصري والمعابد، والعفو عن المساجين والهاربين من العدالة إلى خارج مصر والسماح لهم بالعودة، وترميم وإصلاح حالة المعابد. وردا لجميله، قرر مجمع الكهنة تزيين المعابد والمقاصير بتماثيل الملك إلى جوار تماثيل الآلهة المصرية، واعتبار مناسبة ميلاده وتتويجه عيدا للبلاد، وكتابة هذا القرار بثلاثة خطوط. وفقدت الأجزاء العليا والسفلى للحجر. ويبدو أن جزئه العلوي كان على شكل اللوحة الملكية المصرية من زمن الفراعنة على شكل قرص شمس مجنح يحدد إطار اللوحة العلوي وأسفله يقف الملك والآلهة.
وشغل الجميع بمحاولات تفسير الكتابة الهيروغليفية مثل المؤرخ الإغريقي خايرمون، ثم الأديب المصري حورابللو، ثم المؤرخ كليمنت السكندري، ثم الأب أثناسيوس كيرشر.
ووزع المتحف البريطاني نسخا عديدة من الحجر على المعاهد والجامعات الأوروبية للتوصل لسر الكتابات التي يحملها. فحاول فك طلاسمه عالم الطبيعة الفرنسي سلفستر دي ساسي وتلاه الدبلوماسي السويدي يوهان ديفيد أكربلاد، ثم الطبيب البريطاني توماس يونج.
وتعتبر محاولات جان- فرانسوا شامبليون هي المحاولات الناجحة لفك أسرار اللغة المصرية القديمة. وساعده في ذلك حجر رشيد ومسلة فيله في إحدى ميادين إنجلترا ومعرفته باللغة القبطية وباللغة الإغريقية ونتائج الباحثين السابقين عليه خصوصا كيرشر ويونج ورؤيته المنهجية في المقارنة والاستنباط والتحليل. وتمكن شامبليون في النهاية من التوصل إلى الأبجدية المصرية القديمة عن طريق مقارنة الخطوط الثلاثة والأسماء الموجودة في الخراطيش. وقدم شامبليون اكتشافه الجديد في خطاب أرسله إلى البارون الفرنسي بون- جوزيف داسييه، سكرتير الأكاديمية الفرنسية للكتابات والآداب، كي يتلوه على مسامع أعضاء الأكاديمية في 27 سبتمبر عام 1822 معلنا مولد علم المصريات كعلم أكاديمي بشكل رسمي.
إن قصة اكتشاف حجر رشيد وفك أسرار النصوص المكتوبة عليه هي باختصار قصة تلاقى بل تلاقح الشرق والغرب في لحظة تاريخية معينة قائمة على التعاون وبعيدة عن الصراع التقليدي بين حضارات الشرق والغرب من أجل فك شفرة سر حضارة من حضارات العالم القديم، بل سيدة العالم القديم، لا تكرر كثيرا في تاريخ التعاون بين الحضارات الإنسانية.