بقلم: د. خالد التوزاني
من بين أهم السمات التي طبعت الأدب الذي صدر عن المغاربة على امتداد التاريخ، والشعر منه على الخصوص، يبرز ملمحان، هما الواقعية والالتزام، إذ لم يكن الشاعر المغربي يعيش بمعزل عن مجتمعه، ولم تكن اهتماماته الشعرية بعيدة عن مجريات الواقع الذي يعيشه محليا ووطنيا وكذلك عربيا ودوليا، بل كان يمثل صدى هذا الواقع؛ يتفاعل معه فيبدع شعرا ملتزما بقضايا الهوية والإنسان، ولم يعتبِر الشعراء المغاربة هذا التوجه الإبداعي ترفا أدبيا أو حدثا ظرفيا مؤقتا، بل عدوه واجبا وطنيا مقدسا ودائما، يعبرون من خلاله عن ارتباطهم بهذه الأرض، ويتجلى هذا الارتباط في تجسيد الهوية المغربية والدفاع عنها، وذلك باغتنام بعض المناسبات لإعلان تشبثهم بهذه الهوية التي تشكل جوهر وجودهم، ومنها وصف الاحتفالات بأهم الأعياد الوطنية وخاصة عيد العرش المجيد، حيث تفنن الشعراء المغاربة في وصف أجواء الفرح بالعيد الوطني السعيد، مما يفسر كثرة القصائد في هذا المجال، حتى عدها بعض الباحثين غرضا شعريا مستقلا له خصوصياته وسماته، أطلقوا عليه “فـــــن العرشيات”، علما أن الشعر عند المغاربة لم يكن نخبويا، وإنما كان ظاهرة عامة عند أغلب المثقفين، حيث لا يستحق الاعتراف منْ كان لا يقول الشعر، فالشعر مكون مركزي في ثقافة المثقف المغربي، ولذلك مثّلَ الشعرُ ديوان الهوية المغربية وسجلها الحافل بمظاهر الحياة المغربية في أدق تفاصيلها، وبالطبع إلى جانب المكون الفقهي والعقدي الذي يشكل أيضا جوهرا أساسا في التكوين الديني للمثقف المغربي، حيث أسهمت بعض العوامل في جعل الأديب المغربي ملما بالفقه قبل الأدب، ومنها: بروز المغاربة في العلوم الشرعية، وعنايتهم بالاتجاه السني في التصوف، وانصرافهم عن الذات والاهتمام بالجماعة، ودفاعهم عن الاسلام والبلاد، وهي عوامل جعلت شخصية الشاعر المغربي منزوية خلف شخصية الفقيه الذي يهتم بالعلم قبل الفن، وبالحقيقة قبل الجمال.
ما الذي يميّز الشعرَ الصوفيَّ في صحرائنا المغربية؟ بداية، يمكن إدراجُ كثيرٍ من الشعر الصوفي ضمن الأدب الإسلامي أو الأدب الديني، فمن الأكيد أن الأدب المغربي هو أدب ديني في معظم إنتاجه، وهو الأدب الرسمي والمهيمن في فترات تاريخ الأدب العربي في المغرب، وقد “تضمن هذا النوع من الأدب العديد من الخصائص وأسرار الهوية الثقافية المغربية” ونستحضر منها فكرة الوحدة باعتبار الهوية كُلاًّ لا يتجزأ.
تشغل فكرة الوحدة في الأدب الصوفي عددا كبيرا من شعراء الصحراء المغربية، حتى إن بعضهم قد جعل الوحدة شعارا روحيا وأخلاقيا قبل أن يكون وطنيا وإنسانيا، ويتعلق الأمر بالشيخ ماء العينين في نظمه المشهور “إني مخاوي”، ومطلعه:
إني مخاوٍ لجميع الطُّرق أخوة الإيمانِ عند المتقّي
ولا أفـــــــرّقُ للأوليــــاءِ كـمـَنْ يُـفــرِّقُ للأنبيــاءِ
قال تعالى المومنون إخوة وعدمُ التفريق فيه أُسوَة
فهذا الشيخ الصوفي لم يوحدّ الطرق الصوفية فحسب، وإنما وحّد القبائل الصحراوية لمواجهة القوات الأجنبية، كما غلب على شعره الصوفي الطابع العملي الذي يميل إلى الزهد والأخلاق والرقائق بعيدا عن كل نزعة إشراقية باطنية، الشيء الذي عكس هوية الأدب المغربي القائم على الوسطية والاعتدال في الفكر والسلوك.
ومن مظاهر الوحدة أيضا ذلك الالتحام الوجداني بين ملك وشعبه، حيث المحبة المتبادلة والإخلاص المشترك، وفي هذا المعنى تقول الشاعرة خديجة أبي بكر ماء العينين:
يُبادلك الإخلاص شعبك والهوى ومن يَهْوَ لا يُخفي وليس بِجَاحِدِ
إنها علاقة محبة لا تفنى ومودة لا تبلى بين شعب محب وملك محبوب، انعكست في جل أغراض الشعر المغربي عموما والأدب الصحراوي خصوصا، ففي بعض قصائد مدح النبي صلى الله عليه وسلم تظهر بجلاء محبة المغاربة لملكهم، فيتوسل الشاعر المغربي بالنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم لصيانة البلاد وأن يحفظ اللهُ سِبط النبي المرتضى أمير المؤمنين ملك المغرب، وفي هذه المعاني الوطنية السامية تقول الشاعرة خديجة أبي بكر ماء العينين (من قصيدة: نفحة أرج الزمان بنشرها، ألقتها بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف بالمجلس العلمي بالرباط، سنة 1999):
يا مولـدَ المختارِ هـــــذه أمتــي فِي حَفْلِهَا المَيْمُونِ شَمْلٌ لا اِفترق
يسعى لجمع الشمل مَنْ وَرَثَ العُلَى والحِلم عن جَـدٍّ كريـمِ المُعْتَــــرَقْ
مَلِـكٌ تُفدِّيهِ النفوسُ بما اكْتَفَــــــــــــــتْ مِنْ حُبِّهِ الصِّرفِ اللذيذِ المُعْتَنَـــــــــــقْ
إني دعوتُـــــــــــــكَ خالقي، وتوسُّلـي بالمصطفى، فَصُنِ البِلادَ مِنَ الوَنَقْ
واِحْفَـظْ لنَا سِبْـــــــــــــطَ النبي المُرتضَى حامي الحِمَى مِنْ كُلِّ أَسْبابِ القَلَقْ
كما ربطت هذه الشاعرة بين تحرير الصحراء المغربية وتحقيق الأمن في جميع ربوع الوطن، بعد قطع دابر الطُّغيان وتطهير البلاد من وصمة الدخلاء بإجلاء المستعمر الإسباني من صحراء مغربنا، مادحة الملك الراحل الحسن الثاني نور الله ضريحه:
في عهده عَـمَّ البلادَ، شمالَها وجَنُوبَها كل الرضى بأمـــــــــــان
إذ طَهَّرَ الوطن الحبيب بعزمه مــن وصمـــة الدخـــلاء مِنْ إِسْبَانِ
يوم الجـلاءِ تقهقروا بمسيــرة خضراء تقطع دَابِرَ الطُّغيــــــــــانِ
وبجنده الجرار قد قصم العِدا بين البطـــاح ومنتهى الكثبـــــــــان
أرضى الإلـهَ مُحَرِّرٌ لبـــلادِهِ ومُكــافِحٌ في السّـــــِر والإعــــلان
وإذا كانت قضية الوحدة الترابية للمملكة تعني وحدة التراب متجسدة في استرجاع الصحراء المغربية، فإن الوحدة الوطنية تعني وحدة الإنسان، فلا يمكن فصل المواطن الصحراوي عن أخيه في باقي جهات المغرب، ولذلك تعتبر بيعة أهل الصحراء لملك المغرب على مر التاريخ وتجديدها باستمرار في المناسبات الوطنية عاملا لتعزيز وحدة الإنسان المغربي وتقوية أواصر الوطنية والانتماء للعرش العلوي المجيد، فهذه البيعة قديمة تؤسس لتلاحم تاريخي عريق بين كل المغاربة من طنجة إلى الكويرة.
ختاما، إن حضور الهوية في بؤرة اهتمامات الأدب الصوفي في الصحراء المغربية، قد شكّل جانبا من جوانب الدفاع عن الوحدة المغربية ترابا ووطنا وعقيدة وملكا وهوية، ولا شك أن الشعر الصوفي في الصحراء المغربية لم يكن مرتبطا بحدث تاريخي مضى وانقطع، وإنما احتلت الهوية المغربية بُعداً حيا في نفوس أدباء الصحراء غير مرتبطين بزمان ولا مكان، ولذلك سارع كل المغاربة لبيعة الملك محمد السادس فور رحيل والده المنعم الملك الراحل الحسن الثاني نور الله ضريحه، ليستمر الوفاء وتتعمق معاني الوطنية الحقة، حيث حب الأوطان من الإيمان، وفي بعض هذه المعاني تقول الشاعرة خديجة أبي بكر ماء العينين:
محمَّـدُ بايعــــناكَ بِـرًّا بِجَدِّكُــــــــمْ ومن حبّ آل البيتِ فيهِ لِعاقِـــدِ
ومَنْ مِثـلُ شَعْبٍ مَلَّكَ اللهُ أَمْـــــــرَهُ سليلَ رسُولِ اللهِ نَبْعِ المَحامـِـدِ
يصُونُكَ رَبُّ العرشِ من شَرِّ حاسدٍ ويحميكَ للأوطانِ مِنْ كيدِ كائِدِ