بقلم: تيماء الجيوش
كنت أتبادل الحديث في مناسبةٍ اجتماعية و من خلاله فوجئتُ بأحدهم ممن بات قاب قوسين او ادنى من سن التقاعد و يعمل جاهداً لإبراز مميزاته و بقائه في سوق العمل أطول فترة ممكنة بل و يُعدُّه البعض مثقفاً وجدته يدلو برأيه و يعتبر أن على المرأة التقاعد و الابتعاد عن العمل متى بلغت الأربعين ، يعني بالمحلي «شو بدو يطلع منا» و «حاجتا بئى»!!! و « عيب ما بئى بالعمر اكتر مما مضى»!! بقيت مشدوهةً لوهلة امام هذا الرصيد من التمييز ، هل يعني أننا كنساء معيبٌ عملنا ببلوغنا الأربعين؟ ، و لماذا العيب ؟ اين هو ؟ و أية ازدواجية هذه؟ ألا يُفترض ان يكون هناك شيئاً من اللياقة المهنية و العملية ؟ أين يقع الوعي من كل هذا؟؟
لنتفق أولاً أن الإدراك و الوعي هما عملية فكرية لا تُنشئ عقلاً و لكنها تبرزه و تصقله. و الوعي تحديداً هو اعلى درجات الإدراك من خلاله تتقدم الأفكار و الآراء. في شرقنا نجد العديد من السيدات ممن كنّ شجاعاتٍ بحق ، تميزن بوعيٍ عميق و استطعن ان يكسرن الكثير من القوالب النمطية التي تحدُ من ابداعهن و تفوقهن . لربما النسبة ليست بالعظيمة التي يمكن ان نقول انها باتت تُشّكل أغلبية، فالمرأة و أدوارها النمطية في الشرق تُثقل عاتقها بأعباء كثيرة ، و ما يغذي هذه الأدوار النمطية عوامل اجتماعية تقليدية ، لا تساعد المرأة بتاتاً ، بل البيئة الاجتماعية غالباً ما تكون حاضنةً للكثير من التمييز و الانتقاص و التهميش للمرأة ، ناهيك عن الأسباب السياسية و القانونية و الاقتصادية . غالباً دور المرأة العربية النمطي ، و لا اعمم بالمطلق هنا، أقول غالباً، يقع في حيز التبعية و الوصاية و القوامة و الأهم سن الإنجاب . بلغةٍ بسيطة كم صادفنا نساءً بلغن الثلاثين و هُنّ جدات ولديهن العديد من الأحفاد؟ كم امرأةٍ هناك تُحاسب على مظهرها و منطقها و مجلسها من خلال عمرها؟ كم امرأةٍ هناك لم تُستثمر إمكاناتها الفكرية و العملية بسبب التمييز الجندري؟ كم امرأةٍ هناك في الأقطار العربية قررت العودة الى مقاعد الدراسة او انضمت الى سوق العمل بعد تجاوزها سن الخمسين او الأربعين؟ كيف ينظر لها المجتمع ذو المواقف الازدواجية في حال فعلت هذا او ذاك؟ كيف يُثار أمر أعمار النساء عموماً لا سيما اجتماعياً و اقتصادياً؟ ما هو مدى الاهتمام المؤسساتي بهن و ما هي الخدمات التي تُقدم لهن فعلاً؟
ربما معظم النساء ممن يتقدمن في العمر يصبحن لا مرئيات . يحدث هذا في كثيرٍ من المجتمعات الانسانية حيث تنحصر ادوارهن و مشاركتهن الاجتماعية بشكلٍ حاد مع تقدمهن بالعمر. و لا يعود هناك من اشارةٍ حقيقية الى مساهمتهن المجتمعية او الفكرية او الاقتصادية و الاستثناءات تكاد لا تتعدى عد الأصابع .
لكن الامر مختلف كل الاختلاف مع أوليف براينتون في مقاطعة برينس ادوارد الكندية. فما هي حكايتها؟ وفقاً لتقرير CBC هي سيدة تبلغ من العمر الواحدة و الثمانين و حالها مثل حال بقية السيدات المتقدمات بالعمر ما عدا استثناء واحد يبلغ من الأهمية بمكان ألا وهو قرار اتخذته عندما بلغت السادسة و السبعين في ان تتابع أكاديمياً دراستها و السبب يعود الى أن اكثر من نصف سكان الريف في مقاطعة برينس ادوارد هم من النساء و هنّ لا يتلقين الخدمات من الجهات الرسمية و المؤسسات بالشكل و الحجم المطلوب لهذا فإن السيدة اوليف وجدت الحل في ان تولي هذا الامر دراسة و بحثاً بشكلٍ أكاديمي و بالتالي تدفع الى تغيير هذه السياسة فيما يتعلق بالسيدات المتقدمات بالعمر و هكذا كان عندما تقدمت بأطروحتها تحت عنوان : « كيف تتقدم النساء في العمر بالمناطق الريفية في برينس ادوارد» لنيل شهادة الدكتوراه من الجامعة.
لتحقيق أهداف أطروحتها قامت السيدة اوليف بتدريب عشرة نساء منهن من تعمل في حقلها الخاص و تجز العشب مستخدمة جرارها و منهن من قامت بتربية أطفالها و عندما تقاعدت لم يزد معاشها التقاعدي عن بضعة دولارات لا تسد رمقاً. ما ابرز تمييزاً ضد جيلٍ بأكمله من النساء. و منهن من تقوم بالبحث في الأسواق التجارية و المعارض عن سيارة جديدة بقصد شراءها و ذلك دون مساعدة ، ثم كان منهن أيضاً أي من بين النساء من قالت ان التقدم بالعمر لا تعني نهاية حياة المرأة الاجتماعية و الشخصية بما فيها الارتباط . كانت خطوط أطروحتها كما وصفتها وسائل الاعلام لا سيما تقرير CBC حينها تحمل كل ما تعنيه شيخوخة النساء في المناطق الريفية.
بشكلٍ أكاديمي سلسٍ و غير متكلف ارادت اوليف و من خلال هذه النماذج النسوية الى القول غير المباشر أن هؤلاء النساء لسن عبئاً على المجتمع بل يعشنّ بشكلٍ مستقل و لهن تجاربهن التي يُعتدُّ بها . أرادت ان يُنظر لهن بطريقةٍ مختلفة بعيدةً عن الرثاء و أن توصل احتياجاتهن الى المؤسسات المعنية و الى مجتمعهم بالدرجة الاولى. السيدة اوليف و السيدات اللواتي قامت بتدريبهن يمثلن وعياً فريداً يُشادُ به . لم تستكن أياً منهن لدورها النمطي ولم تُعّرف عن ذاتها من خلال تقدمها في سنين عمرها و شيخوختها بل من خلال ما تستطيع ان تقدمه و تشارك به في مجتمعها و ألا تكون عالةً عليه .
المرأة العربية ليست أقل من غيرها فهي أيضاً تمتلك الإمكانات و الذكاء و المؤهلات ما يدفعها لإنجاز الكثير و الإبداع في مناحي متعددة. المرأة العربية لا تستحق هذه القوالب الجامدة النمطية و لا تستحق ان نُعرّفها من خلال ارقام او عمر او جندر ، انظروا إليها جيداً فهي تستحق التقدير و الاحترام والمساواة .
معادلة العلاقة بين المراة و المجتمع هي معادلة ليست بسيطة و لكن كلما ازداد تطور المراة الاقتصادي و الاجتماعي ادى هذا الى زيادة تطور المجتمع باكمله و كان معياراً حقيقياً لحضارة هذا المجتمع سواء كان شرقاً ام غرباً. العديد من المجتمعات ادركت و في وقتٍ مبكر ان عدم احترام حقوق المرأة و التمييز ضدها سيؤدي بالنتيجة الى خسارة مجتمعية فادحة و عدم قدرة المجتمع على استثمار امكاناته كاملة ما دامت المرأة تُمثل نصف المجتمع و مشاركتها تعني فعلاً بناء حضارة و مدنية. حرصت هذه المجتمعات كل الحرص على المساواة و دفع القوانين لمزيدٍ من عدم التمييز و بالنتيجة سارت عجلة الاقتصاد الى الامام و انتقلت هذه المجتمعات من الفقر الى دولٍ متطورة غنية. المرأة ليست عيباً ، المرأة ليست عمراً او سنة ميلاد، المرأة العربية ليست عبئاً على مجتمعها بل هي دعامته الاساسية . المرأة زخمٌ حقيقي من الإبداع و الإمكانات .
اسبوع سعيد لكم جميعاً.