بقلم: أ.د. ناهدة العاصي
الإنسان العربيّ مدرَّبٌ على التشبُّه بزعمائه لأقصى الحدود. مثلهم تماماً، يعتدُّ بحبّه للوطن وتمسُّكه به وعدم استعداده لتركه تحت أي ظرفٍ من الظروف. وبينما يُكابر على ظروفه، يجعلك تبدو أنت المُهاجر وكأنّك خائنٌ لا تتمتّع بالمواطنيّة الصّالحة. كثيرون هم الذين يقفون هذا الموقف ومن ثمّ تجدهم فعلوا مثلك عندما سنحت لهم الفرصة! سلوك الإزدواجيّة هذا يستوقفني كثيراً ويدفعني لإبراز أهمّ العوامل والأسباب التي تؤثر سلباً على مدى تأقلم الكثير من المهاجرين العرب مع ثقافة المهجر بشكل عام، وكيبيك بشكلٍ خاصً!
ـ السبب الأول هو أنه لدى الإنسان العربي الكثير من الخوف من الآخر والقليل من الثقة به، والشعور بالأمان فقط ضمن جماعاتٍ تشبهه. وهذا كلّه يبطئ عمليّة الإندماج في ثقافة الوطن الجديد. تلاحظ مثلاً الأغلبيّة يبادرون بالقول «أنا كندي!» لكن قليلون الذين يتوقّفون عند هذه العبارة دون إضافة من أصلٍ لبناني أو مصريّ… هل هم كنديّون بالهويّة فقط؟ هل هذا تذبذب بين الإنتماء الحقيقي واللا إنتماء؟
ـ السبب الثاني هو أنّ أنظمتهم قد رسّخت فيهم التطرّف الديني والإيديولوجي وزرعت حدوداً مصطنعة بين الإنسان وأخيه الإنسان.
مثلاً تجد أكثرهم يقول «أنا منفتحٌ وإلّا لما هاجرت، لكن لا يعجبني إنفتاح الكنديين الزائد عن حدوده». هذا الموقف يفتح الباب على الكثير من الأسئلة التي لا مجال لنقاشها هنا، مثل «هل الهجرة موضوعٌ مطمئنٌ لدرجة غياب الدافع للتعرّف مسبقاً على ثقافة الوطن الجديد»؟
ـ السبب الثالث هو أنّهم قبِلوا أن يُصادر رجال السياسة ورجال الدّين فكرهم ويقنعوهم أنهم ليسوا بحاجة للتّفكير وبأنّهم يفكّرون بدلاً عنهم. هذا الإسقاط، علّمهم الصمت في بلادهم والإنتقاد غير البنّاء في الكثير من الأحيان في وطن المهجر.
مثلاً تجدهم ينتقدون نظام الرعاية الصحية أو النظام التربويّ في كندا بحجّة «أنا أمارس حقّي المشروع في بلدٍ ديمقراطي». متى كانت الديمقراطيّة والنقد البنّاء عنصران منفصلان؟ نعم! يحقّ لنا تمرير الأحكام لكن ليس قبل معرفة جوهر الموضوع أولاً وإلا ما النتيجة؟!
ما هو مفهوم الإنفتاح والنقد البنّاء لدى الكنديّين الجدد وكيف ينعكس في سلوكهم؟
مفهوم الإنفتاح يتجلّى خلال لقاءات العرب العامّة: حيث بعضهم يبالغون في الترحيب ويتحمّسون لتوزيع الألقاب يمنةً ويُسرةً! فمثلاً قد تُصبح فجأةً دكتوراً بينما أنت في الحقيقة مهندسٌ أو إعلاميًّ، أو تصبح شاعراً بينما أنت تتذوّق الشعر ولا تكتُبه، أو تصبح كاتباً أو أديباً في الوقت الذي ليس لديك أيّ مؤلَّف. والحقّ يُقال، لم أحظَ حتى الآن إلّا بشخص واحدٍ يرفض أن يُعطى لقباً ليس له، ما يجعلني أنحني احتراماً.
أما مفهوم النقد البنّاء فيتجلّى في ازدواجيّة التعاطي. يمدحون الآخر في وجهه وينتقدونه في غيابه! عادةٌ مُكتسبة تنعكس سلباً على الكثير من المناسبات التي نظّموها والتي لم تحصد النّجاح المرجوّ بالإضافة إلى فقدهم لعوامل أساسية أهمّها تكاتُف الأيادي في التحضير للعمل، وصدق النوايا، والتعاطي بانفتاح وموضوعيّة خاصة في مرحلة التقييم، إن حدث!
كيف يمكن أن يضبط «الكنديّون الجُدد» إيقاع «الأنا» المَرَضِيّة في سبيل علاجها لنضوج تجربتهم وسدّ الثغرات ما بين الثقافتين، العربيّة والكنديّة؟
ـ عليهم الإقتناع أنه «في الإندماج والإتّحاد قوة» لا في اتّباع مقولة «أنا.. ثمّ أنا.. ثمّ أنا.. أو أنا وأخي على إبن عمي، وأنا وإبن عمي على الغريب» وكل مَا هو من هذا القبيل الذي يؤخِّر في وقتٍ نسعى فيه للتقدّم، ويعمي العقول والعيون عن فهم ما يجب فهمه والتمعّن فيما يروه من حولهم من مشاهدات مُعاشة بكلِّ ما فيها من خيرٍ أو شرّ!
ـ عبر رؤية المصلحة العامّة (الدائرة الكبرى) أساساً لمستقبل واعدٍ للمجتمع ككلّ وليس مصلحة الأفراد (الدائرة الصغرى).
ـ في إدراك أنّ العِلم هو السبيل الوحيد لضمان الأمن والإطمئنان. أمّا الثقافة والتراث فيُحافَظ عليهما بتوظيفهما في مجال التنمية الثقافيّة.
ـ بتعاطي مَن منهم في مواقع القرار مع الناس على أساس الأحقّيّة لا على أساس الخلفيّة الدينيّة أو الإجتماعية أو المناطقيّة، فالقرارات الإستنسابيّة هي أكثر ما يخيفني من وصول «الكنديّين الجُدد» (أبناء الجالية) إلى تلك المواقع.
ـ والأهم من كل ذلك، علينا بدايةً أن نعترف بأن الخطوة الأساسيّة هي اقتناعنا بأننا كنديّون ولسنا جاليات متفرّقة آتية من العدم. هكذا نفتح الباب على مصراعيه لتفعيل التواصل البنّاء بيننا من جهة وبين إدارات المدارس وكادراتها التعليميّة وكلّ مَن له علاقة بأمور التربية من جهة أخرى بهدف تسهيل عمليّة الإندماج الحقيقي في المجتمع.
هكذا يكون التصالح مع الذات! وهكذا يتمّ تعزيز مفهوم الديمقراطية والنقد البناء! وهكذا ندرك أن القوانين لا تسود فوق الناس، بل عبرهم وعبر وعيِهم وإرادتهم في تنطيم وتطوير أمور حياتهم. حينها فقط سنعرف كيف نختار ممثّلينا وكيف نوجّه بوصلتَهم في الإتجاه الصحيح.