بقلم: محمد منسي قنديل
بعد عام كامل من التجوال في مصر وفلسطين عادت الاختان إلى لندن، اكتشفا للتو أن قريتهما الصغيرة لم كافية لهما، لم تستطيعا التأقلم مع الحياة المغلقة القديمة بعد خرجتا للعالم الواسع، كن في حاجة إلى حياة جديدة، وبدأت أنجيس في تأليف كتاب عن رحلتها للشرق، كانت في اعماقها مؤلفة روائية، كتبت روايتين قبل ذلك لم يكتب لهما النجاح، ولكن كتاب “ الحج للشرق” لفت الأنظار إليها، وبدأت تجني بعض الشهرة، وفي الوقت نفسه وقعت مرجريت في الحب، تقابلت مع جيمس جيبسون الذي يكبرها بسبعة عشر عاما، كان اسكتلنديا مثلهما ويتشارك معها في تجربة السفر إلى مصر، خاصة صحراء سيناء، تزوجته سريعا، وجدت اجنس نفسها وحيدة للمرة الأولى في حياتها، وكعادتها عكفت على دراسة اللغات وخاصة العربية، كانت لغة صعبة، ولكن جرس الالفاظ أعاد إلى ذاكرتها رحلتهما لمصر، وبدأت تفكر جديا في العودة إليها، لكن الحرب كانت مشتعلة هناك، انتبهت بريطانيا فجأة إلى أهمية قناة السويس، واحست أنها أخطأت حين تركت منفذا بحريا مهما مثل هذا في أيدي الفرنسيين، واخذت تتحين الفرص حتى تقفز عليه، وتمكن جيشها بالفعل من هزيمة جيش الفلاحين الذي يقوده عرابي، واصبحت مصر المنكوبة نحت الاحتلال البريطاني.
رحلت انجبس وحدها لليونان ولكنها لم ترتح لها كثيرا، كانت أثينا مليئة بالخمارات أكثر مما ينبغي، والآثار التي تتباهى بها تعد احجارا هزيلة بالنسبة لما شاهدته في مصر، وغادرتها إلى قبرص، وعندما كانت تجلس امام الميناء وجدت الكثير من السفن تتجه إلى مصر، كانت قناة السويس قد غيرت خريطة الملاحة البحرية، وجدت نفسها تقفز في احداها وتهبط في ميناء السويس، اقرب نقطة تستطيع العبور منها إلى سيناء، كانت قد سمعت كثيرا عن دير سانت كاترين، وعن الرهبان اليونانيين الذين يقيمون فيه، والمخطوطات النادرة الموجودة في خزائنه، وكان زوج اختها جيبسون قد حكى لها الكثير عن مشاهداته اثناء رحلته لمصر، ولأنه يهتم كثيرا بالمخطوطات القديمة فقد حكى لها كثيرا عن العالم الالماني فون تشندروف وقصته مع رهبان الدير، فقد اكتشف في مكتبتهم وسط كومة من الأوراق المهملة والمعدة للحرق واحدا من أقدم الانجيل المعروفة على وجه الأرض، كان باحثا ورساما المانيا، تخصص في البحث عن الاناجيل القديمة النادرة، سافر إلى باريس وفينيسيا ولندن يفتش في مكتباتها القديمة، وقد وجد ان اقدم انجيل في أوروبا يعود فقط للقرن العاشر، لذلك قرر أن يتجه للشرق ، مهد المسيحية، قام بزيار الاديرة الموجودة في الصحراء، ثم قرر أن يذهب إلى اقدمها، دير سانت كاترين الموجود في وادي سيناء، ، كان الامبراطور الروماني “جستنيان” قد بناه في القرن السادس تخليدا لروح القديسة كاترين التي استشهدت في الإسكندرية، جاء “تشندروف” يحمل خطابا من اسقف الدير الموجود في القاهرة، وسمح له الرهبان بالدخول، لم تكن هناك بوابة للدير لذلك ادلوا له سلة ليضع نفسه فيها ويرفعونه لأعلى، وسمحوا له بالإقامة داخل الدير لمدة أسبوع واحد، والبحث في مكتبة الدير التي كانت مليئة بالمخطوطات التي لم ترتب أو تفحص، ولم يلفت نظره المجلدات المتراصة فوق الأرفف، ولكن كومة من الأوراق كانت ملقاه في احد الأركان ومجهزة للحرق هي التي استأثرت باهتمامه، طلب أن يفحصها ووافق أمين المكتبة بلامبالاة، بدأ يقلب في الصفحات المتناثرة ، كتابات باللغة السريانية والآرامية واليونانية، مختلطة بصفحات أخرى مكتوبة بالعربية ، أعاد ترتيبها لعلها تؤدي به إلى شيء ، جمع خمسين صفحة متشابهة في العمر ولون الورق ، مكتوبة باليونانية، ولكنه لم يكن متأكدا أنها شيئا ذا اهمية، كان في حاجة إلى مزيد من البحث ، و إلى أدوات التي لم تكن موجودة في الدير، ولكن أيام ضيافته كانت قد انتهت ، وغادر الدير ومعه الخمسون صفحة التي جمعها، وفي بلدته “ليبزج” أكتشف أنه يجب أن يعود للدير من جديد، كانت الصفحات جزء من انجيل قديم يعود تاريخه للقرن السادس الميلادي، اقدم من أي انجيل آخر رآه، كان يريد أن يقلب مكتبة الدير رأس على عقب حتى يعثر على بقية المخطوط، ولكنه كان في حاجة لسلطة اقوى حتى لا يقف الرهبان في طريقه، سافر إلى روسيا لمقابلة القيصر، الراعي الأكبر للديروالمتكفل بنفقاته، وعندما تمكن من مقابلته عرض عليه الصفحات التي جمعها، وارسل معه القيصر خطابا لكبير الأساقفة يطلب تسهيل كل وسائل البحث لتشندروف ، عاد للدير دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض على وجوده، أخذ يفتش في الامكان التي يريدها حتى اكتشف بقية المخطوط،، كتاب ضخم يضم الاناجيل الأربعة باليونانية، المشكلة أنه كان مملوكا للدير، واحد من نفائسه التاريخية ويجب أن يبقى فيه، ولكن تشندروف كان يريد أن يأخذه ليدرسه ويعيد طباعته، اثر نفيس مثل هذا لا يجب ان يبقى حبيس الصحراء، وبعد طول مفاوضات كتب تعهدا على نفسه أن يعيد المخطوط مرة أخرى للدير، ولم يكن كبير الرهبان قادرا على رفض طلب مندوب القيصر، سمح له بالخروج ومعه المخطوط، وانتشر الخبر في كل ارجاء اوروبا، اصبح تشندروف بطلا، انفتحت أمامه أبواب مراكز البحث التاريخية والدينية، ودعي لإلقاء المحاضرات في محافلها العلمية.
ولكن اهم الدعوات جاءت من القيصر الأعظم لروسيا، كان يريد أن يرى المخطوط الاثري، وعندما ذهب إليه كان القيصر مهتما بفحصه، تناوله ووضعه على ركبتيه، قال له أنه كان يتمنى لو ان هذا المخطوط مكتوبا بالروسية القديمة، ثم أشار لتشندروف بانتهاء المقابلة والمخطوط مازال على ركبتيه، انحنى الباحث أمامه أكثر من مرة، ولكن القيصر ظل يراقبه بعينين باردتين، وعندما خرج من القاعة انتظر طويلا في الردهة متوقعا أن يخرج أي خادم حاملا المخطوط، وظل في الفندق ينتظر لأيام أخرى طويلة ، لم يأت أي رسول من القصر، بعد طول الحاح استطاع أن يقابل مسئولا روسيا رفيعا، وافهمه المسئول ببساطة أن الدير كله تحت رعاية القيصر، وهذا المخطوط بطريقة أو بأخرى يعد من ممتلكاته، ولم يجد سبيلندروف سبيلا غير مغادرة روسيا محسورا، اختفي المخطوط تماما عن اعين العالم، لم يظهر بعد ذلك إلا بحوالي تسعين عاما، في عام 1933 عندما اتصل جوزيف ستالين بالحكومة البريطانية يعرض أن يبيع لها انجيل سيناء الذي اكتشفه تشندروف، كانت روسيا في اشد الحاجة للعملة الصعبة، وباعت الكثير من كنوزها الفنية من متحف “الارميتاج” للثري الأمريكي اندرو مالون مؤسس متحف المتروبوليتان الشهير في نيويورك، وكان الثمن المطلوب في الانجيل هو مائة الف جنية إسترليني، اعلى من سعر أي مخطوط في العالم، وفتحت بريطانيا باب الاكتتاب العام واستطاعت أن تجمع نصف المبلغ من التبرعات ودفعت الخزانة البريطانية النصف الثاني وانتقل الانجيل إلى المتحف البريطاني ومازال هناك، تحفة لا تقدر بثمن.
خيل لأنجيس أنها يمكن أن تحقق حلما مثل هذا، ترحل إلى الدير وتكتشف مخطوطا مماثلا، ولكنها اضطرت أن تترك السويس سريعا وتعود إلى لندن، كان مرض جيبسون قد تفاقم، لم يستطع ان يقاوم داء الصدر، غادرت الروح جسده العليل، وعادت الاختان وحيدتين مرة أخرى، وكانت مرجريت شديدة الحزن ، ولكن اختها لم ترد منها أن تعيش حياة الأرملة، ولم يكن هناك من تعزية غير الرحيل بعيدا عن لندن الكئيبة، وهكذا بعد سبعة اشهر فقط من وفاة جيبسون قررت الاختان معاودة حلمهما في الذهاب إلى مصر، إلى دير سانت كاترين على وجه التحديد.