بقلم: سليم خليل
نشأ الكاتب عبد الرحمن الكواكبي في مدينة حلب من أسرة ثرية لها مدرسة – المدرسة الكواكبية – للعلوم الشرعية وكان والده مدرسا فيها فخلقت هذه البيئة الثقافية من عبد الرحمن كاتبا وأديبا وشخصية تنتصر للحق وترأف بالفقراء ؛ كان يحب العلم والإطلاع واللغات ؛ فتعلم اللغة التركية والفارسية وبعض العلوم والرياضيات وقوانين الدولة العثمانية. إشتغل محررا في الجريدة الرسمية ثم رئيسا لكُتّاب المحكمة الشرعية وقاضيا ثم رئيسا لبلدية حلب . في كل هذه الأعمال كان يصطدم بفساد الإدارة واستبداد الحكام . كان سلاحه النزاهة فحاربهم وحاربوه !! هدفه العدل والإستقامة وسلاحهم الدسائس واتهامه بالتحريض على الشغب.
وجد نفسه في بيئة لا تحتمل فترك العمل في الدولة وأنشأ صحيفة – الشهباء – مدافعا عن عقيدته وقوميته العربية وداعيا لخلافة عربية وليس تركية عثمانية ؛ ومنتقدا العيوب والأخطاء وكاشفا الفضائح التي عاشها في الإدارات. كانت آراؤه تتسم بالصراحة التامة التي لا تقرُ ظالما على ظلمه ولا جائرا مستعينا بمنصبه وجاهه على جوره . كانت النتيجة تعطيل الجريدة ومصادرتها واعتقاله ثم إخلاء سبيله عدة مرات ؛ فكانت نتيجة المطاردة الهروب من مدينة إلى أخرى حتى وصلت قدماه إلى أرض – مصر- حيث كتب مقالات بعنوان – طبائع الإستبداد – فكانت كل كلمة كتبها تعكس ظلم وجور السلاطين وخاصة السلطان عبدالحميد وحاشيته الفاسدة الذين تولوا الحكم في فترة ثورة الكواكبي من نهاية القرن التاسع عشر إلى مطلع القرن العشرين.
أجمل ما كتب الكواكبي كان وصف إستبداد العثمانيين الذين حكموا منطقة الشرق الأوسط وجزء من شمال أفريقيا لعدة قرون وخنوع الشعوب المسحوقة بعد قرون من الإستبداد والإغتيال والتشريد وقطع الأرزاق ومصادرة مؤونة العيال وتجنيد شباب المنطقة وقودا لحروب دامت ثلاث قرون لقمع الثورات المحلية على الحكم التعسفي و دفاعا عن الحدود الشاسعة والتوسع حتى أطلق على السلطنة العثمانية إسم - الدولة المريضة – .
قال الكواكبي في كتابه طبائع الإستبداد عن العثمانيين :
-الإستبداد داء أشد وطأة من الوباء ؛ أكبر هولا من الحريق ؛ أعظم تخريبا من السيل ؛ أذل النفوس من السؤال؛ داء إذا - نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي: القضاء… لقد اتبع الإستبداد تسمية النصح فضولا والغيرة عداوة ؛ والشهامة عتوا ؛ والحمية جنونا ؛ والإنسانية حماقة والرحمة مرضا ؛ وأعتبر النفاق سياسة ؛ والتحايل كياسة والدناءة لطفا ؛ والندامة دماثة.
ويستمر في وصف كبار الرعية المقهورة والمسحوقة :
إذا كان كبار الأمة قد ألفوا النفاق والرياء مرضاة للمستبد… فعامة الناس سيألفونها أيضا … حتى يضطر أكثر الناس إلى إباحة الكذب والتحايل والخداع والنفاق والتذلل وإهانة النفس؛ حتى يصبح من القيم المعترف بها: إعتبار التصاغر أدبا؛ والتذلل لطفا ؛ والتملق فصاحة وترك الحقوق سماحة وقبول حرية القول وقاحة وحرية الفكر كفرا. إباحة الكذب والتحايل والخداع والنفاق والتذلل وإهانة النفس هكذا وصف الكواكبي كبار القوم الذين تعايشوا وتأقلموا مع الظلم والإستبداد والفساد وجنوا الأموال ومدحوا السلاطين وخاصة السلطان عبد الحميد الذي كان المنافقون ينعتونه بأوصاف لا تليق إلا بالخالق مثل (ملك الملوك وقدس الأقداس وباني الدنيا والسلطان الأعظم).
كان لمقالات الكواكبي (طبائع الإستبداد) أثر عميق في نفوس العرب وباعثا لمعارضة شديدة ومثيرا في القوم النخوة والإباء ؛ فما كان من المنافقين إلا قرار التخلص من الكواكبي وأهمهم والي حلب – عارف باشا – الذي أقسم للسلطان أن يتخلص منه فزوَر وثائق يتهمه فيها بتسليم حلب إلى دولة أجنبية فاعتقله وسجنه وفي صيف عام ١٩٠٢ إستشهد الكواكبي ومات من السم المدسوس في طعامه .. لكن كلماته الثورية وصوته الجهير بقي يتردد دافعا إلى الحرية والعزة .