بقلم: د. خالد التوزاني
يرجع اهتمامي بموضوع أدب الرحلات إلى فترة دراستي الجامعية في سلك الدراسات العليا بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية، مدينة فاس، وذلك منذ عام 2007، حيث كانت رسالتي لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية حول موضوع له صلة مباشرة بالرحلات، وقد قامت بنشره الرابطة المحمدية للعلماء بالرباط، ومركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بوجدة، تحت عنوان: جماليات العجيب في الكتابات الصوفية؛ رحلة ماء الموائد لأبي سالم العياشي أنموذجاً، ثم بعد ذلك ألّفت كتاباً عنوانه: الرحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتلقي، وهو الكتاب الذي حاز جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي، بأبوظبي عام 2017، وهكذا فإن صلتي بأدب الرحلة لم تكن ظرفية أو عابرة، وإنما كانت نابعة من إيمان عميق بأهمية الرحلة وضرورتها في النجاح الفردي والمجتمعي، فشعبٌ لا يرحل لا يُعوّل عليه، لأنه لا يستفيد من تجارب الشعوب الأخرى، ولا يتقن لغات العالم ولا يحسن التواصل ولا يقدر على الإبداع، فالرحلة مدرسة مفتوحة على آفاق رحبة من التكوين والخبرة والتثاقف والتواصل المثمر، وضمن هذا السياق فقد حاولت في كتاباتي تقديم قراءة جديدة في السّفر، تنظر للرحلة من زوايا مختلفة عن السائد والمألوف في الدراسات التقليدية، ولعل ذلك راجع للتكوين الموسوعي الذي تلقيته، فقد درستُ علم النفس، والتصوف والأدب والنقد وعلوم التربية، فضلا عن قراءاتي المتعددة في مجالات التاريخ والفلسفة والابستيمولوجيا والفيزياء والعلوم الشرعية، مما جعل رؤيتي لأدب الرحلة تطغى عليه النظرة الموسوعية، فتكون المقاربة شمولية، تتجه نحو العمق ولا تكتفي بالسطح، بل تُسائل النصوص وتستنطق الأحداث والمواقف وتعيد ترتيب المشاهد وفق تسلسل جديد يأخذ بعين الاعتبار نفسية الرحالة وطبيعة العقلية التي سادت في العصر، وكيف أثّرت الظروف العامة في نمط الكتابة الرحلية، وهذا الأسلوب في التحليل أفضى إلى نتائج مهمة دوّنها في مؤلفاتي ومقالاتي التي اتخذت من أدب الرحلة موضوعاً لها، وسوف أسعى في هذا المقال لتسليط بعض الضوء على جوانب أخرى متفرّدة في أدب الرحلة، تجعل من السّفر مُنتجاً لأدب فريد من نوعه، ولحكمة الحياة وخبرة المرور في الآفاق ومشاهدة العوالم المختلفة في بقاع الأرض.
إنَّ مصدر الجمال في أدب الرحلات يكمن في الجمع بين الأدب والرحلة، فالأول بما هو مفهوم فني جمالي، والثاني بماهو تجربة ومغامرة، يجعل من منجز الرحلة شيئا مغريا وجذابا وآسراً للقارئ، وفي الوقت نفسه يزيد البحث في الرحلة صعوبة ومشقة، فقارئ الرحلة لا تكفيه المعرفة بقواعد الأدب فحسب، وإنما يحتاج إلى حظ وافر من المعارف العامة، أي يحتاج إلى أن يعرف شيئاً عن كل شيء، حتى يفهم المواقف والمشاهد وطبيعة الأشياء الموصوفة، ويقطف الثمرة؛ ثمرة الرحلة، وهي الخبرة العميقة في الحياة وتجربة الخروج عن المألوف ومغادرة منطقة الأمان، حيث الوقوف وجهاً لوجه أمام المشهد بكل ما فيه من عنف وقوة وبكل ما يحمله من مخاطرة أو أمن أو شعور بالخطر ثم نجاةٍ من الموت، وغير ذلك من التجارب الصعبة التي يمر منها الرحالة، وخاصة نمط الرحلة القديمة في الصحاري والجبال والمناطق الوعرة، وأيضا في زماننا عندما يقرر بعض الأبطال الخروج مشيا على الأقدام أو على متن دراجة أو حتى سيارة، والانتقال في رحلة عبر القارات، ينقضي فيها الزاد وتضيق الدنيا بالرحالة في أوقات معينة، ويحتاج لإبداع حلول مبتكرة، يؤدي تداولها بين الناس إلى رفع الوعي والارتقاء بجودة الحياة.
إذا كان الأدب في التصور القديم يعني ما نعنيه اليوم بكلمة «ثقافة»، أي سعة الاطلاع بمختلف ميادين المعرفة بتنوع مجالاتها ، فإن تجربة السفر، تزيد من مكونات تلك الثقافة وتعمقها، لتصبح الذات منفتحة أكثر على من حولها، ومتفاعلة مع المختلف، وبهذا الفهم يمكن اعتبار الرحلة تجربة «تعلن عن سرد الأسفار» ، وتتضمن معنى الذهاب بعيدا عن الأوطان، ووصف العمران والأقوام، حيث يتم التعبير عن تلك التجربة من خلال الأدب، مما يؤدي إلى نوع من الاندماج بين زمن التجربة وزمن تدوينها، اعتمادا على ما بقي محفورا في الذاكرة، ويؤدي هذا الاندماج، إلى تشكيل نوع من التداخل والتكامل؛ بين ما يراه الكاتب بعينه، وما يرسمه الخيال للمتلقي، وهو يعكس تواصلا من نوع خاص، يحركه دافع بث الخير ونفع الغير وتخليد تجربة السفر، عبر نقل هذا الأخير من حيز الأشواق والرقائق، إلى صفحات الأوراق ودقائق الوصف الرائق، حيث يصبح منجز الرحلة نصًّا جميلا.
يبدو أن معنى الرحلة لا يثير أي مشكلة في اللغة، فمادة «رحل» تسبح في فلك الانتقال والظعن والمسير والضرب في الأرض والانتشار ، لكن يستعصي تحديد معنى «أدب الرحلة» في الاصطلاح، لأنها لا تتضمن فقط ما هو أدبي، ولكن تشتمل أيضا على ما هو تاريخي وجغرافي وعلمي.. إلى غير ذلك من حقول المعرفة، ولتجاوز هذا الالتباس، يدعو عبد الرزاق جبران إلى ضرورة التمييز في هذا النوع من الكتابة بين: كتابة عن رحلة واقعية، وأخرى خيالية، فبالنسبة للرحلة الواقعية يقوم الرحالة بأدوار متعددة، منها عمل الجغرافي والمؤرخ والسياسي، أما الرحلة الخيالية فوجهتها معروفة، «فهي ترتبط غالبا بالرواية حيث السرد الروائي مطية لغوية لفعل الرحيل» ، بل يمكن اعتبار كل انتقال «يقوم به الأديب عبر الحلم أو الخيال إلى عالم بعيد عن عالمه الواقعي»، رحلة خيالية. ولا يُفهم من هذه المقارنة نوعا من التفاضل، «فالرحلات الخيالية لا تقل أهمية عن الرحلات الفعلية، لأن كلتيهما تنتهي إلى مقولة؛ «إن المعرفة بالذات تتأصل عن طريق المعرفة بالآخر» . والملاحظ أيضاً أن الرحلة الخيالية، وإن كانت غير واقعية، إلا أنها غالبا ما توظف الأساليب ذاتها التي يستعملها الرحالة في حالة الرحلة الواقعية، ومن ثم، فإن هذا التمييز غير دقيق، ولا يتعلق سوى بمحاولة حصر بعض أنواع الرحلات، ولعل اختلاف الباحثين في تجنيس أدب الرحلة وفي محاولة فهمه، يؤكد ارتباط الموضوع بما هو ذاتي أكثر مما هو موضوعي، ويجعل هذا النمط من الكتابات متأثرا بوجهة نظر الرحالة والقارئ معاً، وبالطبع الباحث الخبير يكون له رأي مغاير أحياناً، وهذا التنوع في الرؤى يزيد أدب الرحلة غنى وريادة بين أجناس الأدب، ويجعله المجال الأكثر التباساً ودهشة وإغراء، وفي الآن نفسه المجال الأكثر إفادة للقارئ.
حدد بعض الباحثين أدب الرحلات باعتباره «مجموعة الآثار الأدبية التي تتناول انطباعات المؤلف، عن رحلاته في بلاد مختلفة، وقد يتعرض فيها لوصف ما يراه من عادات وسلوك وأخلاق، وتسجيل دقيق للمناظر الطبيعية، التي يشاهدها أو يسرد مراحل رحلته، مرحلة مرحلة، أو يجمع بين كل هذا في آن واحد» ، ويبدو أن هذا التعريف ينطبق على الرحلات الواقعية فقط، ولا يدمج غيرها من رحلات الخيال والوهم، مع أنَّ الرحلة مهما كانت توحي بالواقعية أو تدّعي وصف واقع معين، يظل بعضُ الخيال حاضراً فيها، حيث يصعب التثبت من كل مروياتها، كما قد تطغى عليها بعض المبالغات، وخاصة المواقف التي كان لها تأثيرا في الرحالة، وبذلك فالرحلة «قلما تكون أمينة في التعبير عن طبيعة البلد، ونفسية ساكنيه، وكثيرا ما تختلط الحقائق فيها بمزاعم لا أصل لها، أو تأويلات مبالغ فيها، أو بأوهام تعبر عن نفسية الرحالة الكاتب أكثر مما تعبر عن واقع الشعب الذي رحل إليه ويتحدث عنه». ولعل هذا الإشكال هو ما دفع بعض الباحثين الجمع بين الرحلة الواقعية والخيالية، من أجل توسيع مجال أدب الرحلات، ليتضمن كل ما يكتبه الرحالة، سواء مَن سار منهم في البقاع، أو مَن تجول مع الأفكار، وأخذ الخيال منه كل مأخذ». على الرغم من صعوبة الاتفاق على تعريف جامع مانع لأدب الرحلة عموماً، وصعوبة الوصول إلى تحديد مجالات اهتمام أدب الرحلة، وشروطها، نظرا لارتباطها بما هو نفسي أكثر، وبما هو معبّر عن الأحاسيس والمشاعر، وهذه الجوانب معرضة للتأويل، خاصة وأنَّ اللغة الأدبية الواصفة لها إمكانات هائلة في إنتاج المعنى واستنطاق المحتوى، الشيء الذي يزيد من صعوبة الولوج لهذا النمط من الأدب.
وللخروج من مأزق التحديد المفهومي لأدب الرحلة وانتمائها الابستيمولوجي، يقترح بعض الباحثين التمييز في أدب الرحلة بين اتجاهين اثنين: الأول رياضي والثاني وصفي؛ حيث يهتم الاتجاه الرياضي في المقام الأول بعلم الأطوال والعروض، ومن ثم، فقد سمي هذا الاتجاه بالجغرافية الرياضية وتقويم البلدان، الذي بلغ تطوره في مؤلفات ابن سعيد المغربي وأبي الفداء. أما الاتجاه الوصفي فيهتم بوصف المسالك والممالك والعجائب والغرائب، ولذا سمي بالجغرافيا الوصفية وقد واصلت هذه الجغرافيا تطورها، إلى أن تخلّت منذ القرن التاسع الهجري عن الوصف الدقيق والتعبير المعقول المقبول، واهتمت بالتراجم ووصف المزارات والأضرحة والخانقاوات التي أحيطت بالكثير من الأساطير والمعجزات وكرامات الأولياء وسير الصالحين والأبطال، وتكمن أهمية هذا التمييز في كونه يقدّم مراحل تطور الرحلة عبر محطات ثلاث: أولها الاهتمام بالمسافات والطرق وتقويم البلدان، وثانيها وصف المسالك والممالك والعجائب، وثالثها الاهتمام بالتراجم والمناقب ووصف كرامات الأولياء ومناطق وجودهم سواء كانوا أحياء أو أمواتا. ولا يمنع ذلك من وجود رحلات تجمع بين تلك المحطات جميعا، أو تزيد عليها بسرد النصوص وتجميع المؤلفات وحشد النوادر وتتبع الغرائب والأخبار.
على الرغم من أن التمييز بين كتب الرحلات وكتب المسالك، يندرج في سياق الكلام عن رحلات واقعية، إلا أنه يبين حقيقة جوهرية في الرحلة مفادها؛ أن الأصل في تآليف الرحلات هو رغبة الإنسان في اختراق الآفاق ومعرفة البلدان، وبالأخص غريبها وعجيبها، ونظرا لكون الرحالة قد يكون في بعض الأحيان أديبا متمكنا من اللغة والبلاغة وجماليات التعبير، فإن أثر تكوينه الأدبي يمتد إلى وصف منجز الرحلة بعبارة «المسالك والممالك»، باعتبار هذه العبارة وصفا جماليا يدل على تذوقٍ لما شاهده وتفاعلٍ مع ما رآه، وإحساس مرهف بمظاهر الائتلاف والاختلاف، ليس في مشاهداته المحسوسة فحسب، وإنما كذلك في تأثيرات تلك المشاهدات على نفسيته وشخصيته.
إذا كان القدماء قد نظروا إلى الرحلة بوصفها علم المسالك والممالك أو علم الجغرافيا، فإن هذا العلم قد ضمّ مزيجا من عناصر مشرقة من الفكر والأدب والإبداع، وعكس تفاعلا رائعاً بين رؤية العين وإبصار القلب، ولذلك صيغت تلك الرحلات بأسلوب أدبي فائق الجمال؛ بانتقاء أعذب الألفاظ وأجزلها، واعتماد أسلوب قصصي سلس ومشرق، مما دفع بالكثيرين إلى إدخال أدب الرحلة «ضمن فنون الأدب العربي، عندما تصبح قراءة هذا اللون من الكتابة متعة ذهنية لا مثيل لها ، وهذا الطابع الجمالي للرحلة يجعلها اليوم تنافس الرواية والشعر والقصة، بل تغدو كتابة شاملة لكل الفنون والأجناس الأخرى.