بقلم: محمد منسي قنديل
انهم ليسوا محاصرين، ولديهم القدرة على توجيه ضرباتهم إلى اي مكان يريدونه في الوقت الذي يردونه، والاخطر من ذلك كله هو قدرتهم على اختيار الضحية التي يريدون اغتيالها، هذه بعض الهواجس التي تبادرت إلى ذهني فور سماعي نبأ اغتيال العميد عادل رجائي، الرجل الثاني في الجيش الثاني المصري وأحد القيادات العسكرية المهمة، وقد تم اغتياله أمام منزله في مدينة العبور، في النقطة صفر التي يتحرك منها كل صباح، دون أن يتركوا الفرصة له أو حراسه حتى يغيروا من خط سيرهم بعد ذلك، وتمت العملية رغم وجود هؤلاء الحراس، بل أنهم قد اصيبوا ايضا وتم سلب اسلحتهم، كان هناك وقت كاف أمام منفذوا عملية الاغتيال لإطلاق 12 رصاصة عليه منهم واحدة على رأسه، وكذلك سلبه سلاحه الميري، فعل المغتالون ما يريدونه بالضبط كأنهم يقتلون شخصية عادية وسط صحراء جرداء، وهذا هو الشيء الصادم في الأمر، لقد اطاحت الحادث بكل ما نتحدث عنه حول مقاومة الارهاب، فلم يعد تواجدهم قاصرا على الجزء الشمالي من جزيرة سيناء، ولكن ثبت بالدليل القاطع أنهم قادرين على التسرب إلى كل مكان، وأن لهم الكثير من الخلايا النائمة بيننا، تنتظر الفرصة حتى توجه ضربتها.
أننا نواجه عدوا بلا وجه محدد، ولا مكان ثابت، وجهه يشبه وجوهنا، ويتحدث بلغتنا، ويحمل بطاقات الهوية نفسها، ولكنه يكن لنا درجة قاسية من العداء لم نعهدها من قبل، نحن لا نتصارع معه حول الموارد، فهي شحيحة علينا وعليه، ولا نتصارع حول العقيدة الدينية لأننا نتشارك فيها، ولا يوجد اي صراع عرقي لأن الشعب المصري متجانس لدرجة الملل، كل ما نتصارع حوله هو بعض الخلافات السياسية، من يحكم من؟ ومن يختار الحاكم، نحن أم هم؟ هل هناك خلاف أكثر من ذلك، ولكنهم رفعوا هذا الخلاف لدرجة الصراع على الوجود، وجودهم أو وجودنا، ولم يفتهم أن يغلفوا خلافهم بثوب من كهنوت الدين، ثوب متشدد إلى حد ما، ربما يكون مكانه المسجد، او قاعة المؤتمرات ، ولكن ليس ميدان المعركة بأي حال من الاحوال، من الجائز أن تختلف ونتشاجر ونتخاصم احيانا، ولكن ان يصل بنا الأمر لحد التقاتل ، فهذا نوع من الجنون..
الارهاب في مصر مجنون، واسع الانتشار، وكلما ازدادت درجة الفقر ازدادت حدته، لا اعرف كم منطقة عشوائية في مصر يسكنها الفقراء، ولكنها كثيرة، ولا اعرف كم قرية في الريف المصري تعاني من الجوع والحرمان، وهي كثيرة أيضا، هناك مناطق لا يعرف عنها النظام شيئا، وبالقرب من القاهرة عاصمة البلاد توجد مناطق لا يجرؤ رجال الشرطة على دخولها، لاتوجد فيها مدارس ولا مستشفيات ولا تقدم لها الدولة اي نوع من الخدمات، هذه المناطق هي التي تفرخ كل هذا الكم من الشباب اليائس، الذين يلقون بأنفسهم في البحر بحثا عن شاطئ آخر ملئ بالأمل والحياة، ومنهم اطفال كثر لا تتعدى اعمارهم الخمسة عشر عاما، ومن هذه المناطق أيضا يخرج الشباب الذين يذهبون للقتال في معارك يائسة في سيناء وليبيا وسوريا، ارحام نساء مصر لا تتوقف عن انجاب الاطفال، لا تتساءل عن المصير الذي ينتظرهم، ولا كيف يمكن تدبير العيش لهم؟ وإذا كان رجل الشرطة او المدرس أو الطبيب لا يدخلون هذه المناطق ، فإن شيوخ الفتنة يقدرون، يدخلونها محملين بمنطق لا يمكن رفضه بحجة أنه قادم من السماء، يفرخون لنا من هذه المناطق جيل من الشباب الناقم الذين يرون أن الدنيا كلها كافرة وأن شيوخهم فقط هم من يملكون الحقيقة. كيف يمكن محاصرة كل هذا الكم من الشباب الذين يولدون من رحم الفقر في مصر؟
ولكن عملية اغتيال العميد عادل رجائي تكشف عن جانب آخر بالغ الخطورة، فالإرهاب قد وصل إلى مرحلة جديدة، لم يعد عشوائيا كما كان من قبل، لا يكتفي بوضع أي عبوة متفجرة في اي مكان، ربما تنفجر وتصيب اي أحد، أو ربما تنكشف وتتفكك، ولم يعد يملأ سيارة بالمتفجرات ويتركها على جانب من الطريق، ربما تنفجر بفعل المصادفة في الهدف الذي يسعون إليه وربما لا تنفجر اصلا، فشلت هذه الطريقة في اغتيال وزير الداخلية، عندما انفجر السيارة قبل مروره بلحظات، ونجحت في اغتيال النائب العام بفعل المصادفة لأن الانفجار كان هائلا واصاب الرجل والحرس والمباني المحيطة، ولكن حجم النيران هذه المرة كان بسيطا ومؤثرا لأن التخطيط كان جيدا، لقد اختاروا الضحية اولا، شخصية عسكرية كان لها دورا مؤثرا في ليلة القبض على مرسي وانهيار نظام الإخوان، لأنه كان مسئولا عن تأمين القاهرة، كما كان له دور في مقاومة المتمردين داخل سيناء وقام بتدمير عشرات الانفاق وغمرها بالمياه، بعد ذلك حددوا مكان سكنه وهو عبارة عن شقة صغيرة ومتواضعة في مدينة العبور، كان يعيش فيها مع زوجته وحيدين لأنهما لم يرزقا بأطفال، منطقة قليلة الزحام، الدخول إليها والهروب منها سهل نسبيا، ومن الواضح أنهم راقبوا تحركاته جيدا، لذلك عرفوا موعد خروجه مبكرا للعمل كل يوم، وعرفوا أن هناك سيارة عسكرية وحراسة من الافراد تقف في انتظاره، ولكن الغريب أنه ولا واحد من الحراس قد لاحظ تحركات القتلة وهم يختارون مواقعهم، الاهمال المصري المعتاد، اعتمد القتلة عليه، وعلى عنصر المفاجأة ايضا، ابطلوا عنصر الحراسة، حولوهم هم أيضا إلى ضحايا، ذكاء شرير ولكن يجب أخذه في الاعتبار، انهم يخططون، يعرفون ان هناك حراسة ولكن هذا لا يجعلهم يتراجعون، ينفذون العملية رغم وجودهم اللامجدي.
هذه هي ملامح المعركة التي نخوضها، عدو بلا وجه، يمكن أن يتواجد في أي مكان، لا يمكن محاصرته، أو الحد من الذين ينضمون إليه، عدو قابل للتطور، وبالتالي تتصاعد درجة خطورته ، العميد رجائي لم يكن الضحية الأولى، ولن يكون الأخيرة، ولكن خطة الارهابين قد اصبحت واضحة، سوف يستهدفون الشخصيات العامة، لأن تأثير ذلك سيكون مدويا، وسيخلق حالة كبيرة من الاحباط، والمؤسف أننا لن نستطيع حماية هذه الشخصيات مادامت حراستهم بهذا المستوى، وعلى هذه الشخصيات أن تتصرف وتتعاقد مع شركات خاصة، فنحن لا نكف عن الصياح أننا في حرب ضد الارهاب، ولكننا نخوض هذه الحرب وظهورنا مكشوفة، لا تستطيع رد الطعنات التي توجه إلينا، واغتيال العميد رجائي كانت واحدة من اقسى هذه الطعنات، وعلينا أن نكف عن الصياح، وأن نفكر كيف نتقي هذه الطعنات ونقضي على فاعليها.