بقلم : شريف رفعت
تسير شهرزاد في شوارع بغداد، كم تحب هذه المدينة و كم هي قلقة عليها، من عقود مضت كانت عاصمة العالم، الآن يخيم عليها حزن قدري سببه ملك فقد عقله بسبب خيانة إمرأة. خيانة زوجته. لكن ما ذنب أهل المملكة، ما ذنب مئات العذراوات التي تزوجهن شهريار و ضاجعهن ليلة واحدة ثم أمر بقتلهن، ما ذنب أبيها الوزير و الذي هو مـُكـَلـَف من قـِبَل الملك بأن يحضر له العذراوات. حاولت ألا تفكر، دلفت إلى السوق في طريقها لقصر أبيها، السوق كعادته مزدحم، بائعون و مشترون لجميع البضائع، الحياة يجب ان تسير رغم الحزن المـُخـَيِّم، نظرت حولها نظرات تائهة ضائعة، تسلل إلى أنفها روائح السوق، الخضروات اليانعة، الفاكهة الشهية، العطارة ذات الرائحة القوية ثم البخور بروائحه الذكية، بضائع تصل لمدينتها من كل أنحاء العالم، لكن لا المناظر و لا الروائح ساعدت على تحسين مزاجها. هناك شعور غلاب أن مصيبة ستقع.
دخلت قصر أبيها حيث وجدت المصيبة، الجميع في ذهول، الأم تبكي، الأب صامت و أختها الكبرى دنيازاد شاحبة ترتجف. أخبرها والدها أن المدينة خلت من عذروات حسناوات يصلحن للزواج من شهريار ثم لقاء حتفهن كما حدث طوال السنوات الماضية، و أنه هو الأب و الوزير مـُقـَدَر له أن يضحي بإبنته الكبرى تلبية لرغبات شهريار المجنونة. لم تصدق شهرزاد أن مصيبة البلد وصلت إلى منزلهم، إلى أسرتها، كانت تعتقد دائما أن مركز أبيها كوزير للخليفة سيحميهم، لكن واضح أن شهريار لا حدودا لقسوته. تساءلت هل هذا المجنون يجد لذة خاصة في وضع وزيره في هذا الموقف، كأنه يختبر ولاء أبيها، يمتحنه أيهما أهم لديه إبنته أم ولاءه لسيده.
نظرت ساهمة إلى أبيها و أمها و أختها دنيازاد، كلهم حائرون ضائعون ممزقون. تحدثت لهم بصوت قوي واثق هادئ:
ـ لماذا دنيازاد. سأذهب أنا. إصطحبني يا أبي معك مساء اليوم، أنا من سيتزوجها شهريار.
مشاعر متضاربة تخيم على أفراد الأسرة، الأب يعلم أنه لو كان هناك شيئا يمكن عمله للتخلص من هذه المحنة فأن أقدر الجميع على تحقيق هذا الشيئ هي شهرزاد لكن ما هو هذا الشيئ؟ شهرزاد أحب بناته إليه غزيرة المعلومات، قرأت كتب في الأدب و الفلسفة و الفلك، و تعلمت الشعر و حفظته و قرأت تاريخ الأولين، هي عليمة بأقوال الحكماء و بمصير الحكام و الملوك، بالإضافة لكونها ذكية و حكيمة و راقية و تتصف بالظرف و خفة الدم و الجمال الفائق. لكن هل يفيد كل هذا مع ملك مجنون، هل هذه الصفات تشفع لها و تمنع القدر الذي تعرضت له المئات من قبل.
تودع شهرزاد أسرتها، تنتقل لقصر المـُـلـْك، تدخل غرفة شهريار وجلة متهيبة، رغم حكمتها و شجاعتها الموقف يبدو غلابا و مهيمنا، لقائها لأول مرة عن قرب وجها لوجه مع السفاح قاتل النساء. القاعة غاية في الفخامة و الجمال لكن مايشغل بالها يمنعها من الإستمتاع أو حتى ملاحظة ما يحيط بها، تسأل نفسها “ترى ما مشاعره نحوي؟ ماذا كانت مشاعره نحو المئات اللائي قتلهن؟ هل ينظر إلينا كآدميات أم بتفكيره الضيق المحدود يعتبرنا فقط رمزا للخيانة التي تعرض لها؟ تنحني أمامه مبتسمة، تبدأ بمدحه، تذكر له أن هذه المدينة العريقة مر عليها كثير من الملوك و السلاطين و أن أهلها يتعشمون خيرا منه سيرا على سيرة العظماء الذين سبقوه، يبدي إهتمامه بحديثها و هذا ما كانت تطمح إليه، يسألها و تبدأ في الحكي. يستمر الحـَكـْي طوال الليل، قرب الفجر كلاهما يغالب النعاس، تعمدت أن تنهي حـَكـْيــِها بموقف مثير يتـُوق شهريار لمعرفة كيف سينتهي، قرر أنها ستكمل حكيها في الليلة التالية، تخرج شهرزاد من عند شهريار حية سليمة معافية. مرت الليلة الأولى بسلام، أكيد مسرور السياف المرابط خارج غرفة شهريار و الذي إعتاد قطع الرقاب في نهاية الليالي الماضية أصيب بالدهشة، الدهشة أيضا و معها فرحة غامرة إحتوت أسرتها عندما عادت لهم مع طلوع فجر يوم جديد سليمة معافية.
الليلة الثانية، ثقتها بنفسها قد زادت، ذكاؤها و حكمتها و قراءاتها ساعدوها على وضع خطة لإنقاذ نفسها و إنقاذ نساء البلد، بل و إنقاذ البلد نفسها من حاكم غاشم إنغمس كليتا في مأساته الشخصية التي جعل المملكة كلها تدفع ثمنها، حاكم أهمل مصالح شعبه و أصبح إهتمامه الأول كيف ينتقم، خطتها أن تشفيه عن طريق الحـَكـْي، ستعالجه بالقصص، قصص تتسم بالذكاء الذي لا ينقصها، قصص غير مباشرة، تحكي له عن من سبقوه من ملوك و سلاطين إتسموا بالحكمة و العدل و الرحمة و الإنسانية، عن الإنسان العادي بأماله و مشاكله و ما ينتظره من حاكمه، عن هذه الأرض العظيمة التي تستحق حاكما عظيما، يجب أن يتسم حكيها بالإثارة حتى لا يمل شهريار فعاقبة ملله حياتها و الأهم فشل خطتها في إصلاحه.
تمر الليالي و شهريار مستمتعا بحكيها، يستمع لها منتبها، يجد في قصصها إثارة تمنعه من قتلها، يبهره مصباح علاء الدين و رحلات السندباد و طيران بساط الريح و المغارة المملوءة بالمجوهرات، أسرتها و البلد كلها تتنفس الصعداء فلا ضحايا جديدات لجنون شهريار. لكن ماذا عن الغرض الآخر من حكاياتها، ماذا عن تقويمه كحاكم يجب عليه الإهتمام بشئون رعيته و إقامة العدل بينهم و نشر الرخاء و الخير، يخيل إليها أن هذا هو الجانب الصعب في شخصيته، هل يدرك ما هي وظيفة السلطان و مسئولياته، أكيد الحاشية التي تحيط به و في مقدمتهم أبيها لم يستطيعوا التأثير عليه فهل تستطيع هي أن تقومه. هل تستطيع القصص و الحـَـكْي أن يتغلبا على البطش و العنف.
ليلة أخرى، تدلف إلى حجرة نوم شهريار في الميعاد المحدد، نفس مشاعر كل ليلة، متهيبة، مستعدة، يحتويها خوف و أمل. على باب الغرفة يقف مسرور السياف الحارس الشخصي للملك. ينظر إليها نظرته السخيفة الوقحة التي تعريها و تهينها. هل يأمل في أن تكون الليلة ليلة قطع رأسها؟ هل سيسره هذا؟ هل كان مسرورا عندما قطع رقاب ألاف النساء قبلها؟ الهذا يسمونه مسرور؟ نظرت له متحدية، كأنها تقول له أحذر فمكانتي عند الملك تسمح لي بأن أطلب منه رأسك. ترى أهو واحد من الخصيان. هل مشاعره المريضة نحو ضحاياه لها علاقة بفقدانه ذكورته. قررت ألا تفكر فيه فما هو أتي أهم و أبقى.
تجلس مبتسمة أمام شهريار، تبدأ في رواية قصصها، ما زال يستمع إليها بإهتمام، أكيد هو يقدر جمالها و ظرفها و جاذبيتها، أثناء الحكي تسأل نفسها ما حقيقة مشاعري نحوه، كرجل هو وسيم جذاب يضفي عليه المـُـلـْك سحرا خاصا، لكن جرائمه و عجزه عن فهم ما ترمي إليه في حكيها يمثلان حاجزا نفسيا بينها و بينه، مشاعرها مختلطة نحوه، رفضها لسلوكه كحاكم يتعارض مع إعجابها به كرجل.
أمسية بعد أمسية و ليلة بعد ليلة يمر الزمن بطيئا، هل فقد شهريار إهتمامه بحكييها؟ هل فقد إهتمامه بها كأنثى، كشريكة حياته، هل إعتبرها أبدا شريكة حياته، ينظر إليها و هو مـُغـَيـَب، ينعس أحيانا أثناء الحكي، تحتار ماذا تفعل، هل تتوقف أم تستمر، هل فقدت قدرتها على الإستحواذ على إهتمامه، هل العيب فيها أم فيه، حتى عندما يكون متيقظ و يسمع بإنتباه هل يفهم المعنى الخفي في حكيها، تشك في ذلك، و هل عدم فهمه نتيجة لقصور في تفكيره أم هو حاد الذكاء لكنه لا يود أن يفهم. أسئلة تحيرها و تعذبها، و ماذا ستكون نتيجة عدم إهتمامه، ما دافعه إذا للإبقاء على حياتها، لماذا لا يلحقها بالآلاف اللاتي قـُـطـِـعـَـت رقابهن من قبل. تعاود التفكير في مشاعرها نحوه، منذ أول لقاء، كان الخوف مسيطرا عليها، لم تكن متأكدة أن خطتها ستنجح، و أنها ستنقذ حياتها و حياة المئات من فتيات البلد بحكيها، و حتى بعد عدة ليالي عندما تأكدت أنها إستحوذت على إهتمامه بحواديتها كان خوفها منه جزءا مهما في علاقتها به، هل هذا عدل؟ أن يكون هناك إنسانا مـَهـْما كان منصبه يتحكم في حياة الناس هكذا و يضطرها لإستخدام حـِـيـَلِها و ذكائها كي تحتفظ بحياتها، ماذا عمن سبقوها و لم يكن في ذكائها و فقدن حياتهن، حملقت فيه و هو نصف نائم شعرت نحوه بـِـكـُرْهٍ عميق، شعور لم تـَجـْـرُأ أن تصارح به نفسها من قبل. إنسحبت في هدوء و تركته لأحلامه، أكيد أحلاما دامية.
الليلة التالية و التي صادف كونها الليلة الأولى بعد الألف، تدخل عليه، مرحة مشرقة مبتسمة، فقد عَوَلَت على أمرٍ مصيري، تبدأ في الحكي، يظهر إهتمامه في البداية، بالتدريج و هو يحملق فيها يفقد إهتمامه. تسأل نفسها “ما الذي يجول في خاطره الآن؟ هل يحدد مصيري في هذه اللحظة؟” تستمر في الحكي غير مبالية إذا كان يسمع أم لا يسمع و إذا كان يفهم أم لا يفهم، قرب الفجر و هو نائم تماما، تخرج خنجرا كانت قد أخفته في ملابسها، تقترب منه و هي مازالت تحكي، ترفع الخنجر و بكل قوتها تغرسه في قلبه، يفتح عيناه مذعورا متألما، لأول مرّة تراه مذعورا متألما، يلفظ شهريار أنفاسه بلا ضجيج، تحملق في الجثة الهامدة و هي مازالت تحكي، تحكي عن مصير من لا يتعظ من لا يفهم أو من لا يريد أن يفهم.
تنصرف في هدوء، خارج الحجرة تخبر مسرور السياف بلهجة آمرة ألا يسمح لأحد بأن يزعج مولاه مهما كان السبب لأنه سيتأخر في نومه. تتوجه مع طلوع الفجر لقصر أبيها، تـُعـِدُ عـُـدَة السفر، فقط الأشياء الضرورية تضعها في سـُرَة، يستيقظ أبوها و أمها و دنيازاد و باقي الأخوة، تـُقـَبـِلـْهـُم و تودعهم رابطة الجأش، لا دموع و لا مشاعر جياشة فقد أرهقتها في الفترة الماضية المشاعر الجياشة، لا يعرفون سبب الوداع، يعتقد الأب أن نهايتها مع شهريار قد حانت و أن الليلة التالية آخر لياليها لكنه لا يسأل و يستسلم للقدر داعيا الله أن يزيح عنهم البلاء، تخرج شهرزاد من بيت أبيها، تتوجه أولا إلى حظيرة الجياد، تغير ملابسها و تتخفى في زي رجل فهذا سيسهل عليها الخروج من المدينة، تغطي شعرها الطويل الجميل بعمامة مما يرتديها رجال المدن المجاورة، تمتطي جوادها المـُفـَضـَل و تتجه لبوابة المدينة، تخرج دون أن تثير شك الحراس، عندما بـَعـُدَت بعدا كافيا عن مدينتها نظرت أليها ساهمة و قد تملكتها مشاعر متضاربة، خلعت العمامة و حررت شعرها الطويل الجميل، الشمس تشرق على المدينة، و شهرزاد تسرع على ظهر جوادها مبتعدة.