بقلم: بشير القزَّي
في أواخر الخمسينات من القرن الماضي كنّا نمضي فترة الصيف في منزل صغير شيّده والدي على طرفٍ من الارض التي كان قد اشتراها شراكة مع خالي نبيه من الزعيم الراحل كمال جنبلاط. كانت الارض على هضبة تمر بجنبها طريق شحيم وتبعد نحواً من ثلاث مائة متر عن البحر وقد أَخَذت الكثير من العناء والتعب والعمل لتحويلها من صخرية ووعرة ومغطاة بالعرن والبلّان الى أرضٍ صالحة للزراعة.
في البداية كان المنزل مؤلفاً من غرفة ومطبخ وحمام. أما الشرفة فكانت تواجه الشرق وكان سقفها منخفضاً يخفي فوقه خزّان مياه لتلبية حاجات البيت. بعد ذلك تم تشييد غرفة نوم وحمّاماً إضافيين.
بعد نحوٍ من سنتين أو أكثر من الشراء قام بزيارتنا كمال بك لمعرفة التحول الذي حصل لتلك الأرض. كان يرافقه ابنه وليد مع مربيته السويسرية التي كانت تبدو عليها المعالم الأجنبيّة من شعرها الاشقر القصير والمالس والذي يكاد لا يصل الى كتفيها، الى عينيها الزرقاوين، الى بشرتها البيضاء وفستانها الأبيض والذي كانت تزينه بعض الرسومات بشكل رقع ملوّنة بينما كان يحزم خصرها زنّار رفيع جلدي أحمر اللون.
بينما جلس والداي مع البيك والمربية في الصالون الصغير لشرب القهوة خرجت مع وليد لنلعب في باحة البيت الأمامية على مرأى من الجميع حيث كان بإمكانهم مراقبتنا عبر الباب الحديدي الذي كان مفتوحاً على مصراعيه.
كان ممرّ خرساني يقسم الحديقة الصغيرة المزروعة بالعشب الأخضر الى قسمين ثمّ يتّسع لدى الاقتراب من المنزل بشكل واسع من ناحية الشرفة بينما ينحرف بشكل ممر نحو الجهة الجنوبية . وإذ كان خالي نبيه قد أهداني سيارة مصغّرة تسوَّقها لي من محلات «قيصر عامر» تتقدم وترجع بواسطة دوّاستين للرجلين بينما مقود اسود صغير يتوسّط منصّتها، أخذنا نتناوب على قيادتها وهي التي كان شكلها تمثيلاً مصغّراً «لجيب» الجيش الامريكي بلونه الأخضر الكاكي والنجمة المخمّسة البيضاء المرسومة على سطح مقدّمته. كل ما أذكره عن وليد بيك في تلك الزيارة انه كان لطيفاً، مهذّباً وقليل الكلام!
وكان قنّ دجاج قد تم بناؤه على مقربة من الحديقة بالقرب من موقف السيّارة والتي كانت من نوع «سيمكا (آروند)» رمادية اللون استقدمها والدي معه بالباخرة لدى عودته من باريس بعد إنهاء دورة تخصّص بامور الضرائب غير المباشرة.
أما القنّ فكان مؤلّفاً من حجرتين متلاصقتين صغيرتين مبنيتين من الطوب الإسمنتي المليّس وسقف من الخرسانة المسلحة الصلبة وتطلّ كل واحدة منها عبر مدخلها على باحة خارجية لها سياج من الشّبك الحديدي المربع الفتحات والأخضر اللّون مع باب من الشبك نفسه. اما داخل كل حجرة فكانت قد رُكّزت عوارض خشبيّة على علو معيّن لتبيت الدجاجات عليها اثناء الليل ووُضعت في الزاوية صحّارة خشبيّة في قعرها بعض التبن تختلي الدجاجة بنفسها كلما ارادت ان تبيض! اما فوق الباحة فكانت العريشة التي نمت فوق عوارض خشبية تفرض ظلالها فوق الباحة!
كانت العادة ان نفتح باب سياج القن للدجاجات في الصباح فتخرج بمجموعات صغيرة لتتغذّى مما تجده في الطبيعة، بينما قبل غياب الشمس كنا نلاحقها لإعادتها للقنّ ونحن نردّد بصوت عالٍ: «بِتْ، بِتْ، بِتْ…» لتبيت في مأواها ونقفل الباب الخارجي خوفاً من ان يهاجمها ويفترسها ابن آوى خلال الليل!
وبينما كان والدي يتردد على وزارة الزراعة اللبنانية لدراسة كيفية انشاء مزرعة دواجن من النوع الحديث تبيّن له ان هناك سحب من نوع اليانصيب على ديك من سلالة نادرة الوجود ويساوي ثمنه آنذاك ما يزيد عن خمسين ليرة! قام بشراء ورقة بليرة واحدة ونسي الموضوع. الّا انه تلقى اتصالاً بعد أسابيع يعلمه بانه ربح الديك!
رافقت والدي يوم الاستلام وكان المركز على ما أذكر في منطقة الشويفات. كانوا قد وضعوا الديك في قفصٍ من القصب. كنت أراقب معالمه من خلال عارضات القفص. وضعناه في السيّارة وانطلقنا الى المزرعة. كنت متشوّقاً لأرى ما سيفعله عندما نفلته في القنْ!
ما ان وصلنا حتى انزل والدي القفص وأدخله الى القن وفتح بابه! نظر الديك نحو الفتحة ثمّ تأنّى بالنظر حوله قبل ان يخرج على مهل وهو يتمغّط وكأنه أفلت لتوّه من السجن!
أخذت أتأمّل معالمه وهو خارج القفص. بضخامة شكله ووقار هيبته وعرفه المنتصب ذي اللّون الأحمر الحادق خلته وكأنّه يتحدّر من سلالة السلاطين! اما ألوان ريشه فكانت ملوكيّة بتناسقها وتنوعها! من الاسود اللامع الذي يغطّي أسفل صدره وذنبه المنفوش الذي يبدو وكأنه طرحة عروس الى الريش الذي يغطي عنقه ويصل الى طرفي جناحيه والمموّج بين البني والارجواني! اما رجلاه فكانتا على ضخامتهما وطول المخالب تدلّان على ان له أصولاً من الجوارح!
تقدّم خطوتين او ثلاث ورفرف بجناحيه مرتين ثمّ رفع رأسه وصاح بصوت جعل الوادي القريب يدوّي! قلت لنفسي: «هكذا ديوك وإلا بلا! ما اجمل ان أصحو في الغد على صياحه!» وكانت الدجاجات تحملق به وهي متوزّعة حوله بشكل دائري!
في صباح اليوم التالي لم اسمع صياحه! تعجبت وما ان وصلت الى القن حتى وجدته يئن من آلامه ودماؤه تسيل من عدة اجزاء من جسمه ويلاحقه ديك صغير كنا نخاله دجاجة لصغر عرفه وجسمه المتواضع الحجم! اضطررنا للتخلّص منه الى ذبحه بينما بقي ديكنا يعاني لأشهر قبل ان يتعافى!
من ذلك اليوم تعلمت ان جبروت الكائن ليس دائماً من كبر حجمه