بقلم: د. خالد التوزاني
آية خطاب تلميذة من المغرب تدرس في مستوى الثانوي التأهيلي، بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية، مدينة فاس، تربطها بالكتب صلة وثيقة، وخاصة الروايات الإبداعية، فالكتاب لا يفارق يدها، وهذا الشغف بالقراءة، ساعدها على اكتساب أسلوب جميل في الكتابة والتعبير، وامتلاك حسّ جمالي في رؤية النصوص الإبداعية، وفي قراءة الإبداع عموماً، ولذلك لم تجد صعوبة في قراءة رواية الحي اللاتيني التي وجدتها ضمن مقرر درس المؤلفات في مادة اللغة العربية، فكانت رؤيتها مغايرة لباقي التلاميذ الذين لا يطالعون الكتب في العادة، ففي الوقت الذي لم ينتبه التلاميذ لبعض القضايا في هذه الرواية أو لم يكن في مقدور البعض التعبير عن المضامين، كانت التلميذة آية خطاب على وعي بسياق الأحداث وترتيبها وتنوّع الشخصيات وعلاقاتها، وتطرح الأسئلة عن الجدوى والقيمة من وراء اقتراح هذه الرواية في درس المؤلفات، ولأن التلميذة آية خطاب تقرأ الروائع الأدبية من الروايات العربية المعاصرة، فقد وجدت الفرق كبيراً بين رواية الحي اللاتيني البسيطة في لغتها والساذجة في مضامينها، وبين روايات أخرى صدرت مؤخراً، ونالت بعض الجوائز، فكانت قراءاتها السابقة، عاملا مساعداً في المقارنة والمقاربة المنهجية لرواية الحي اللاتيني، ولعل مثل هذه التلميذة تحتاج فقط للتدرب على منهجية القراءة والتحليل والتركيب لتُبدع بعد ذلك في نقد الرواية وكتابة مقال أدبي حولها، وهو ما قامت به بالفعل، خاصة وأن عشق القراءة أهّلها لتكوين رصيد لغوي مهم، وامتلاك أسلوب في التعبير ، يكفي أن تقرأ بعض الأعمال النقدية لتلج مسار النقد الروائي، ولا شك أنَّ عالمنا العربي اليوم في حاجة لناقدات وعالمات ترتقي الحياة الفكرية بوجودهن، خاصة وأن الاطلاع على معظم الإنتاج الأدبي والنقدي في العالم العربي، يكشف عن سيادة الكتابة الرجالية بتصوراتها ورؤيتها ومنطقها، وغياب المرأة الناقدة أو قلة حضورها وتفاعلها، والتي يمكن أن تكون رؤيتها للنصوص مغايرة، ولعل هذا ما يجعل الاهتمام بقراءة التلميذة آية خطاب لرواية الحي اللاتيني، ضرورياً، بل واجباً علمياً وتربوياً، من أجل تأهيلها لجعل القراءة بوابة للتفكير وإنتاج المعنى وتأمل الواقع واقتراح الحلول وزرع الأمل في الأجيال الحالية، فلا تصبح المدرسة مجرد مقررات يُمتحن فيها التلاميذ والتلميذات، ولكن أيضا مختبرات للتفكير وإنتاج المعنى، وصناعة القادة. تقول التلميذة «آية خطاب»: «في زمن الإقبال على الرواية قراءةً وتأليفاً ونقداً، أصبح التساؤل عن جدوى بعض الروايات العربية التي صدرت قبل خمسين عاماً ضرورة ملحة، خاصةً وأنَّ العالم العربي اليوم قد قطع أشواطاً كبيرة في الإبداع الروائي، وتجاوز مرحلة التجريب والتقليد، فأبدع نصوصاً فائقة الجمال لغةً وأسلوباً وفكراً ورسالةً، والذي يدعونا لطرح سؤال الجدوى والقيمة، هو حضور بعض الروايات «القديمة» في البرامج المدرسية وخاصة درس المؤلفات في مستويات التعليم الثانوي التأهيلي، في مادة اللغة العربية، ففي الوقت الذي تسعى فيه المجتمعات المعاصرة إلى تحبيب القراءة للناشئة، عبر الإقبال على قراءة الروائع الأدبية العالمية، وتسخير إمكانات التواصل المتاحة، لجعل القراءة أكثر إمتاعاً، وخلق مساحة للتفكير وإنتاج المعنى، هناك من يسبح ضد التيار، ويجعل من الأعمال الأدبية بوابة النفور من القراءة والقطيعة مع الكتاب». يقول الناقد المغربي الدكتور عبد الفتاح كيليطو: «إن الكتاب الذي يُفرض في المدرسة يمقُتُه التلاميذ، لأنه يصبح متواطئاً مع الأستاذ»، فهل معنى ذلك أن الرواية في درس المؤلفات تصبح عديمة الجدوى في غياب حرية الاختيار؟ أو أن اختيار رواية معينة يخضع لمعايير «الكبار» التي قد لا تنسجم مع ما يحبّه «الصغار»؟ هل هناك حدود فاصلة بين الرواية بوصفها عملا جماهيرياً مفتوحاً لعموم القراء، وبين الرواية بوصفها واجباً مدرسياً يُحاط بالإلزام والإكراه والثواب والعقاب..؟ لقد تجاوزت التلميذة آية خطاب مستوى طرح الأسئلة حول المضامين وسيرة الكاتب وغلاف الرواية وشخصياتها والقوى الفاعلة.. وغير ذلك من الخطوات المنهجية المتعارف عليها في القراءات التوجيهية والتحليلية ثم التركيبية، إلى مستوى النقد الأدبي الذي يتعمّق أكثر في ما وراء النص الروائي، والكشف عن حدوده، وإمكاناته الجمالية والفنية والاجتماعية، وأبعاده التربوية والنفسية والحضارية، وهذه الإمكانية في القراءة والتحليل لا تتيحها إلا القراءات المتعددة وربط علاقة وثيقة مع الكتب والمؤلفات، لأن القراءة تساعد على القراءة وتنمّي مَلَكة الفهم، فكما يجلب المال المزيد من المال، فإن القراءة تجلب المزيد من القراءة، وترفع وعي العقل والقدرة على التفكير والتفكيك والتأمّل، ثم التعبير والتركيب والتقييم، وإنتاج المعنى، ويبدو أن هذه الغاية قد نجح بعض التلاميذ في بلوغها، عبر الإدمان على القراءة، ولذلك فإن مبادرات تشجيع القراءة وخلق أجواء المنافسة في قراءة أكبر قدر من الكتب ومناقشتها، كفيلة بالإسراع بتكوين أجيال من القراء يملكون قدرة هائلة على التفكير والإبداع، وبسؤال التلميذة آية خطاب عن اهتمامها بالقراءة، سنجد مشاركتها في مسابقة تحدي القراءة أحد أهم الأحداث التي جعلت منها قارئة للكتب، ثم تأتي متعة الاكتشاف وقضاء وقت رائع مع الكتب وتجربة الحياة من خلال عقول المبدعين والمفكرين والقادة الذين يؤرخون تجربة نجاحهم في الكتب والمذكرات. بالعودة إلى رواية الحي اللاتيني، وسياق نشرها، نجدها من الروايات التي حظيت بإقبال القراء عليها، منذ صدورها قبل أكثر من خمسين عاماً، وهي للكاتب اللبناني سهيل إدريس، الذي ولد عام 1925، جمع في تكوينه بين النمطين التقليدي والعصري، حيث درس الشريعة و الصحافة ثم انتقل إلى باريس لمتابعة دراساته العليا في الآداب، وشكّل سفره إلىى فرنسا نقطة تحوّل في مساره، إذ سينخرط في الحياة الأوروبية معبّراً عن إعجابه بها، ومندهشاً من مستوى النظام والاهتمام بالجماليات والفنون، ومعتبراً وجوده في باريس بمثابة حلم كبير تحقّق، ولا يخفى أن هذه النظرة التي تحكم رؤيتنا للآخر، كانت سائدة لدى الشباب العربي قبل خمسين عاماً، لكن اليوم في ظل التحولات التي شهدها العالم وخاصة تطور وسائل النقل وتقنيات التواصل وسهولة اكتشاف الآخر، فضلا عن تحقيق بعض البلاد العربية لطفرة كبيرة في التنمية والتحديث، كل ذلك يجعل رواية الحي اللاتيني بعيدة بعض الشيء عن واقع العرب اليوم، هناك فجوة في الاهتمامات وفي رؤية الذات والآخر، لم يعد كما كانت في السابق، والرواية في الحقيقة تندرج ضمن هذا الأفق، ولعل هذا أول اختبار تخفق فيه أثناء مواجهتها لتلاميذ لا تربطهم بالكتب علاقة وطيدة، ولا يتمكن من الصبر على قراءتها وتحليلها إلا التلاميذ الذين انخرطوا بالفعل في قراءة روايات أخرى قبلها، فرواية الحي اللاتيني ينبغي أن لا تكون أول رواية للقراءة، خاصة وأن حجمها يبدو كبيراً، أمام قدرة التلاميذ على قراءة نصوص طويلة، ولذلك لم يتفاعل مع هذه الرواية إلا القلة من التلاميذ القُرّاء. وعلى الرغم من أن درس المؤلفات، يهدف إلى وضع التلميذ في مواجهةٍ مع نص طويل، بوصفه وضعية مشكلة، تدفعه للقراءة بكل الطرق الممكنة ولو بالإكراه والإلزام، وتتبع الأحداث واستخراج الشخصيات والقضايا الفكرية والاجتماعية، وتحليل الظواهر اللغوية والأسلوبية، للوقوف على خصائص النص، وتدريب التلميذ على القراءة المنهجية، على الرغم من هذه الغاية التعليمية المهمة، إلا أن النص أحياناً قد لا يكون مسعفاً في ذلك، لأسباب متعددة، أهمها تلك الفجوة بين اهتمامات التلميذ وقضايا النص الروائي، ومع ذلك فإن تقليص هذه الفجوة قد يكون عن طريق اللغة؛ لغة أدبية فائقة الجمال، وأسلوب بديع يأسر اهتمام القارئ، وهذا ما يغيب عن رواية الحي اللاتيني حسب التلميذة آية خطاب وغيرها من التلاميذ الذين يملكون قراءات سابقة أكثر إبداعاً وجمالية. من القضايا التي حفلت بها رواية الحي اللاتيني، وأثارت انتباه التلميذة آية خطاب، في قراءتها، قضية المرأة، فقد ركّزت الرواية على صلة الشاب العربي بالمرأة، سواء العربية أو الغربية، حيث عبّر بطل الرواية عن إعجابه بالمرأة الغربية المتحرّرة من كل القيود، وأيضا سهولة الوصول إليها، في نظره، وهو إنما يقارن بين مجتمعه الشرقي المحافظ والملتزم بالتقاليد والدين، وبين عاصمة الأنوار باريس المتحررة من هذه الأشياء، ويبدو أن قضية المرأة هي التي تستحوذ على الجزء الأكبر من مساحة الرواية، وتتفرّع عنها قضايا أخرى أعم وأشمل وعلى رأسها الصراع بين الشرق والغرب، حيث ترى آية خطاب أن هذا الصراع ما زال قائما وتعطي مثال فلسطين والنزاع حول مصير القدس، بل ترى أن الصراع اليوم يشمل العرب فيما بينهم، وتعطي مثال: العراق والسعودية واليمن..، ومن خلال هذا الصراع، تنتقل التلميذة آية خطاب للتعليق على أحداث الرواية بكونها مسيئة للعرب، وتُحطّم صورة الإنسان العربي، بسبب انشغاله بالتفاهات وتحقيق الشهوات، ففي الوقت الذي كان بطل الرواية يتابع دراسته بعاصمة الأنوار باريس كان المفروض أن يهتم بالعلوم والآداب وزيارة المكتبات ومناقشة الأفكار والتواصل واكتشاف الآخر، بعيداً عن الإساءة لنفسه أو للآخرين، ليصبح هذا الشاب نموذجا للشباب العربي وقدوتهم، في حين يعتبر وجود الرواية بهذه الصورة في مقرر دراسي تربوي مثيراً للكثير من التساؤلات، ويظهر ذلك واضحاً في استغراب التلاميذ و»استنكارهم» وجود بعض العبارات المخلة بالحياء، والمثيرة للخجل والخوف والارتباك داخل الفصل الدراسي وهم يطالعون فقرات في وصف اللقاء بين بطل الرواية «دون اسم» والفتاة الفرنسية «جانين»، وهذا ما جعل حُكم التلاميذ في النهاية على رواية الحي اللاتيني حُكماً قاسياً، أي الرفض المطلق، تقول التلميذة آية خطاب: «أين هي التربية عند وضع مثل هذه الرواية في مؤسسة تعليمية؟»، وتستدل بعبارات من الرواية، تحمل أبعاداً غير أخلاقية في الوصف العاري، والبعيد عن توظيف المجاز أو الاستعارة ضمن بلاغة الإمتاع، كما هي في روائع الأدب، والذي يُرقّي الذوق ويُنمّي الحسّ الجمالي العالي، ويحفّز الخيال الإبداعي الخلاق والجميل، عوض السقوط في هاوية الوصف المبتذل أو الساقط. إن هامشاً من الحرية في القراءة، بمثابة بعض الملح الذي يجعل مذاق الأكل طيباً ومستساغاً، ففي مرحلة التركيب والتقويم والحُكم النقدي على المنتج الأدبي، يكون لزاماً فتح المجال لقراء المستقبل للتعبير عن آرائهم والبوح بوجهة نظرهم حول النص المدروس، وهنا يوظف التلاميذ خبراتهم السابقة في قراءات النصوص، وكلما كان التلميذ قارئا نهماً للكتب والمؤلفات، ومتمكّناً من القراءة المنهجية، زادت دقة ملاحظته، واتسمت رؤيته بالعمق والشمول، وكانت ملاحظاته ذات قيمة نقدية عالية، ووجيهة، ترتبط بالنص، ارتباطاً وثيقاً، فتزيد قدرته على فهم الواقع وإبداع الحلول، والانخراط في الحياة بتحدياتها وإكراهاتها، وكلما ضاق هامش الحرية، نما في التلميذ طبعُ الكذب والاحتيال والميل إلى التقليد والغش.. ولذلك ينبغي أن تحفل دراسة المؤلفات بهامش أكبر من حرية النقد، ولكن بمعايير النقد نفسه، القائم على احترام خصوصية الكتابة الإبداعية وقبول الاختلاف، وما يطبع النقد عموماً من سجال وتعدد للرؤى والمواقف، وهذا ما يستجيب له فعلا درس المؤلفات، وخاصة في السنة الثانية من الثانوي التأهيلي الذي يقترح للقراءة والتحليل كتباً نقدية تكشف عن ضرورة التفكير في النصوص، وتجديد رؤيتنا للتراث والأدب والإبداع، وتطوير آليات القراءة والتذوق، وعدم الاكتفاء بالقراءات التقليدية الشائعة أو المتداولة، ولأنَّ القراءة اليوم لم تعد بالضرورة مرتبطة بالكتب الورقية فحسب، أو ما تعطيه المدرسة للتلاميذ، فإن إكساب التلاميذ القدرة على قراءةٍ منهجيةٍ منفتحةٍ، تصبح حاجة ملحّة وضرورية، ولعل ما يبعث على الفرح والكثير من الأمل، أن نجد بعض التلاميذ يملكون قدرات في القراءة والتحليل، تحتاج بعض التهذيب لتشق طريقها في عالم النقد الأدبي.